نصّ المُشرّع الموريتاني، في القانون رقم 2004/017، الصادر بتاريخ 06 يوليو 2004، المتضمّن مدوّنة الشّغل؛ في مادته 306 من الباب الثاني، المُتعلق باختصاصِ محاكم الشّغل، على أنّ الدعاوى الناشئة عن النّزاعات التي تقعُ حول الضّمانِ الاجتماعي، سواءً كانت بين العمالِ ومؤسساتهِ، أو بينَ أصحابِ العمل ومؤسساته، أو بين العمال وأصحاب العملِ بشأنِ تطبيقِ تشريعهِ، لا سيّما في ما يتعلّق بنقلِ العمّالِ
وفصلهم وتوقف المؤسسة..إلخ -نصّ مشرّعنا الوطني على أنّ هذه الدعاوى بالمُجملِ- تدخُل في اختصاصِ محاكم الشّغل.
وغنيٌّ عن القولِ، إنّ المُشرّعَ، عندّما يقولُ، ما يُريدُ أن يقول، فهو -بحُكمِ نزاهتهِ عنِ اللّغوِ والعبثِ- يعني بالضّرورةِ ما يقول.
وعليهِ، فإنّنا سنُسلّم في البدءِ بمضامينِ هذا النّص، على أن لا نكبُت تلك التساؤلات التي تُثارُ في صدده. وبالذّات، تلكَ التي تتطلّعُ في سياقها الاستفهامي، إلى معرفة المعنى الذي تُفيده "مفردة" الاختصاص في القاموسِ الحقوقي؟. ثمّ "الالتزامات" السمولوجيّة التي تُرتبها دلالتهُ القانونيّة على الصعيد المفاهيمي حفاظا على خصوصية المعنى وتمييزا لحدوده داخل الخريطة الدلاليّة للمصطلحاتِ القانونيّة؟. وأخيرًا -وهذا هو السؤالُ الجوهري الذي يُشكّل المحرّكَ الأساسي لهذه المعالجة- إلى أيّ حدٍّ، وفى المشرّع الموريتاني في نظامهِ الإجرائي بهذه الالتزامات؟.
تبدو تركيبةُ هذا الموضوع -كما هو واضحٌ- ثُلاثيّة المحاور، غيرَ أنّ ما أنّ ما يهمّنا هنا، هو بالدرجة الأولى، مدى التزام المشرّع الموريتاني، بضوابط الاختصاص.. لذا، سيكون مُخطط المعالجة -وفقا لما تقتضيه بنية الموضوع- ثلاثيّ المباحث.. على أنّ الاهتمامَ، سينصبّ -لذاتِ الدّاعي الذي أشرتُ إليه في البدءِ- على السؤالِ الجوهري الذي اخترته روحا للإشكالية.
1
إنه لابدّ في البدءِ، كما تُملي ذلك قواعدُ المنطق، أن نُقدّم بنية تصوّرية عن مفهومِ الاختصاص. وانطلاقا من ذلك، وكمحاولةٍ متواضعةٍ للاستجابةِ لهذه اللازمة المنهجية؛ يمكنُ القول، دونَ تعمّق، إنّ المعنى القانوني لمفردةِ الاختصاص، هو القدرة القانونية، -على حدّ تعبيرِ لافريير- التي تُعطي للسلطة العامة (الهيئة القضائية على سبيل المثال) حقّ القيامِ بعملٍ معيّنٍ.(البتّ في القضايا على سبيل الإسقاطِ).
أو لنُقل بعبارةٍ أُخرى، هو الرُخصة القانونيّة -وفق تعبيرِ ايسمان- التي تمنحُ الشخصَ القانونيَّ الحقّ في ممارسةِ نشاطٍ معيّنٍ، أو القيام بتصرّفٍ معيّنٍ، على صورةٍ تضمنُ شرعيّته.
وإذا أردنا توسيعَ دائرةِ التعريفات، يُمكنُ أن نُضيفَ، أنّ الاختصاصَ -على سبيل المُقارنةِ والإسقاط- هو الولايةُ -بالتعبير الفقهيّ الإسلامي- من حيثُ هي -في تصوّرِ الأستاذ مصطفى الزرقاني- سلطة شرعيّة لشخصٍ ما في إدارة شأنٍ من الشؤونِ...
إذا علمنا ذلك، فإنّهُ من الضّروري، أن نُضيفَ إليهِ، أنَّ فكرةَ الاختصاص، على غيرِ ما قد يتبادر للنموذج الماديّ، ليسَت مجرّدَ فكرة طوباويّةٍ لا يتجاوزُ إشعاعها الأنطولوجيّ حُدودَ الإطارِ النّظري. كما هوّ الحالُ، في تلكَ الأفكارِ القانونيّةِ، التي تُحفظُ في الزّادِ الأكاديمي "التّصوّري"، دونَ أن يُقاس عليهِا في المجالِ "التّصديقي" على لُغةِ علمِ المنطق.
مثال ذلك، فكرة التمييزِ، -على سبيلِ المثال لا الحصر- في ما يتعلّق بالقيمة القانونيّةِ، بينَ العُرفِ الدّستوريّ المُفسّر، والعُرفِ الدّستوريّ المُكمّل. ثمّ فكرة التميّيزِ، في الحقلِ العمليّ بين العقد والاتفاق.
أضِف إلى ذلك، فكرة الجيلِ الثالثِ من الحُقوقِ، إذا ما رُميَّ إخضاعها للترسانةِ الإثباتِيّةِ، لالتماسِ وُجودها الواقعي ضمنَ المُتناوَل من الحقوقِ في دوّل العالم الثالث مثالا.
2
إنّ فكرة الاختصاص، على خلافِ هذه الأفكارِ السالفة الذّكر، فكرةٌ تتّسمُ في الواقع العملي، بذاتِ الزّخمِ الحضوريّ الذي تتّصفُ بهِ في المجالِ النّظر، ذلك ما يبدو جليا في مرآة الواقع القانوني العاكسة لمرامي السيّاسيات التّشريعية. فعلى الصعيدِ الشخصي، تبرُز هذه الفكرة، -وتتجلى أهميّتها- في تحديدِ الشخص القانوني المُخول سُلطةَ التّصرف (الفرد أو المرفق العمومي صاحب الاختصاص). وعلى الصعيد الموضوعي، تبدو شاخصة في تحديد طبيعة المهام والوظائف (على سبيل المثالِ نوعية القضايا المُخوّل البتّ فيها : مدنية، أو تجارية، أو جنائية، أو إدارية) المُسندةِ إلى الشخص القانوني المُستأثر بسلطة التصرّف.
أمّا على الصعيد المَكاني، فتبرزُ في تحديد الحيّز الجُغرافي المعنيِّ بالخضوعِ لهذه السلطة (الاختصاص المحلي على سبيل الإسقاط).
وأخيرا، نجدُها ماثلةً على الصعيدِ الزمني، في تحديد الظرفِ التاريخيِّ الذي تُمارسُ السلطة -المُخوّلة- في إطاره.
وبناءً على هذه البنيةِ "العقارية" الراسمة لحدود فكرة الاختصاص داخل البناء المفاهيمي للمصطلحات القانونية، يُمكنُ أن نستخلص، أنّ الاختصاص على الصعيد الوظيفي؛ هو آليةٌ معياريّة دقيقة ذاتُ طبيعةٍ إداريّةٍ، تركنُ إليها المنظوماتُ القانونيّة في تنظيمِ مؤسساتها التّشريعيّة والتنفيذية والقضائية، فتُوّزعُ بواسطةِ أدواتها المنطقيّةِ وظائف هذه المؤسسات ومهامّها، وتحدّد بها صلاحياتها.
ونظرًا إلى جوهريّة هذا الدّور الذي يقعُ على عاتق الاختصاص؛ فقد أُخضع مفهومهُ لضوابطَ معرفية في غايةِ الدّقة.. ولعلّ من أبرزِ تجلّياتِ إخضاعه لتلك الضوابض كونه أصبح في بعدهِ السيمولوجي، لا يحملُ إلا معنًى واحدًا.. ألا وهو الاستئثار.
هذا باختصارٍ، فيما يخصّ، المفهوم القانوني لفكرة الاختصاص، وحدود دلالتِه في الخريطة المفاهيمية للمصطلحاتِ القانونية..
3
أمّا فيما يخصّ مدى وفاء المشرّع الموريتاني بما أسميناهُ في مستهَلّ المقالِ "الالتزامات السيمولوجية التي تُرتبها دلالتهُ على الصعيد المفاهيمي"، فهو ما سنسعى إلى معرفتهِ، بعد الوقوفِ على المعطياتِ التاليّة :
بعدَ ثلاثِ سنواتٍ، من صدورِ مدونة الشّغل، التي نصّت في مادتها 306 على أن الدعاوى التي تفرزها نزاعات الضمانِ الاجتماعي تدخلُ في اختصاصِ محاكم الشّعل؛ أطلّ علينا المُشرّع الموريتاني في خرجةٍ تشريعيةٍ جديدةٍ من بوابةِ الأمر القانوني رقم 035/2007 الصادر بتاريخ 10 إبريل 2007، المُعدّل للقانون رقم 99/035 الصادر 24 يوليو 1999، المتضمن المسطرة المدنية والتجارية والإدارية، فنصّ في المادة 26 من الفصل الثاني، من الكتاب الأول، الذي أفرده للاختصاص النّوعيّ لمحاكم الولايات، على أنّه من ضمنِ القضايا، التي تنظرُ فيها هذه المحاكم في غرفها المدنية دونَ تحديدٍ لقيمتها :
"نزاعات الضمان الاجتماعي
النّزاعات المتعلقة بالجمعيات والنّقابات والأحزاب السياسية".
ولأنّ ما يَهمّنا في هذا الصّدد، هو النزاعات المتعلقة بالضمان الاجتماعي، فإنّنا سنترُك جانبا نزاعات الجمعيات والنّقاباتِ والأحزاب السيّاسيّة، على أن يبقى واضحًا في الذّهنِ، أنَّ التّساؤلَ -وفضلُ السّبقِ في إثارة هذا التّعارض للأمانةِ يعودُ للأستاذ ولد الصّيام- في شأنِ انسجامِ هذهِ النّزاعاتِ معَ "القضية المدنيّة" -من حيثُ هي في المنطق "الإسنادي" تُشكّلُ إقليمًا تخصّصيًّا مُحدّد المعالمِ والحدودِ في خريطة الاختصاصِ النّوعيِّ، مُخالفٌ بالقطعِ للقضايا التي تُفرزها الممارسة السياسة ولتلك التي يُثيرها العملِ النّقابيّ- يبقى سؤالا وارِدًا. ذلك، على اعتبارِ، أن هذه القضايا -أعني تلك المتعلقة بحقوق التمثيل السياسي وكذلك حقوق العمل- تخرجُ من حيثُ طبيعتها القانونية عنِ دائرة الحقوق المدنية بطابعيْها المالي والشّخصي. ومن ثمّ، يكونُ النزاعُ فيها -على غير ما يتبادر للمشرّع الإجرائيّ- ليس نزاعا مدنيا، بقدرِ ماهو نزاعٌ إداريٌّ، تُعنى به الغرف الإدارية، مثل ما تُعنى بالإجراءات المتعلّقة بإنشاءِ وتكوينِ هذه المؤسسات السياسية والنّقابية.
إنّ هذا التعارض، الذي تُعبّر عنهُ المادة 26 من ق.إ.م.ت.إ، ليس كأيِّ تعارضٌ -في نظري- يقعُ بينَ نصّين قانونيّين يُمكنُ أن نستقبله بصدرٍ "تأويليّ" رحب وروحِ "توفيقيّةٍ" مستسلمة، ذلك، أنّه تعارضٌ، يختلفُ عن غيرهِ في كونهِ يُشيرُ إلى كسلٍ تشريعيّ سيُفضيٍ لاشك إلى إرباكِ وتيرة التقاضي في نزاعات الضمان الاجتماعي. ولئن كان هذا الارتباك -بطبيعةِ الحال- هو نتيجةٌ حتمية لتصادم مضامين المادتين 26 المذكورة سابقا، والمادة 306 من م.ش، فهو بهذا المعنى، يُجسّدُ خُطوة إجرائية مُحبطة لحماسِ وتطلّعاتِ المادة 22 من الإعلانِ العالمي لحقوق الإنسان، التي كانت تتطلّع في توجهها الخاص إلى إيجادِ إطارٍ قانونيّ يوفّر للإنسانِ ما تقتضيهِ الحياة الكريمة من ضمانات اجتماعية.
وعندما نقولُ ذلك، فإنّه يتعيّنا علينا أن نملك من الجُرأة ما يسمحُ لنا بالقولِ، إنّ المُشرّع الإجرائي، حينَ أسند في نظامهِ الإجرائي هذه النزاعات إلى الغرف المدنية في محاكم الولايات، بعد أن أحالها إلى محاكم الشغل؛ لم يُخل بالالتزامات السيمولوجية التي تفرضها دلالة الاختصاص من حيثُ هو تقنيّة قانونيّة لا تقبلُ فوضوية الاستعمال فحسب. بل هو بهذا الخلط، أخل بالشق الإجرائي لالتزامهِ الميثاقي لمقتضيات المادة 22 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. ذلك، أنّ هذه القواعد الإجرائية، هي الوسيلة القانونية الوحيدة التي تنتقل القواعد الموضوعية (المقررة لحق الضمان الاجتماعي والحامية له) بواسطها من حالة السكون إلى حالة الحركة.. ومن ثمّ، فإنّ أيّ عرقلةٍ تنظيميّةٍ تعترضُ سبيلها، هي في النّهاية، ستُشكّل عائقا أمام الأدوات القانونية المكرّسة لحماية للحقوق، بما فيها -بطبيعة الحال- حقوق الضمان الاجتماعي..
وإذا كان الاختصاص القضائي، في مرتكزاته المنطقية يهدفُ -من بين ما يهدف إليه- إلى تمكين الأشخاص من اللجوء إلى المحاكم المختصة للبتّ في نزاعاتهم على النّحوِ الذي يُراعي ضرورةَ السرعة والمرونة التي تقتضيها وتيرة النّزاعات.. فإنّ المشرّع بهذا التضارب الصّارخ بين المادتين، قد أوجدَ -على خلافِ ما ترمي إليه فلسفة الاسناد- مصدرا خصبا من مصادر الدفع بعدم الاختصاصِ.. وعليهِ، فإنّه في ظل هذه الثغرة الإجرائية، لا يُستغرب أن تصبح نزاعات الضمان الاجتماعي، بفعلِ ضبابيّة الاختصاصِ، نزاعات اختصاصٍ بين المحاكم بالدرجة الدرجة الأولى -بمفهوم المادة 258 من ق.إ.م.ت.إ- تُعنى بها غرفة المشورة في المحكمة العليا، أكثر مما هي نزاعات في إطارِ العملِ تُعنى بها محاكم الشغل، أو الغرف المدنية في محاكم الولايات كما أراد المُشرّع مؤخرًا.
أخيرا، يبدو لي، أنّه كان حريا بالمشرّع -إذا ما تجاوزنا مسألة الثغرات المتعلقة بالبُعد الفني- أن يُراعي في فلسفتهِ الإجرائية البُعدَ السيكولوجي. ذلك أنّه كانَ من المفترض، أن يعملَ على بثّ روح الثقة والإرتياحِ في نفوسِ المتنازعين، من خلالِ وضعِ نظامٍ إجرائيٍّ في هذه النزاعات يفسحُ المجالَ للتدخّل القضائي، دونَ أن يكون ذلك على حسابِ المرونة والسلاسة. فالمتأمل لسيكولوجية التقاضي لدى الجمهور الموريتاني، المعنيِّ، بهذه القواعد؛ سيُلاحظ أنّها سيكولوجية كسولة. ولئن كانت التجرية القضائية الوطنية، بالإضافة إلى ذلك، لا تحظى في الضمير الجمعي بالقبولٍ؛ فقد شكلّ ذلك خيبة أملٍ شعبويّة، كانت كفيلة بجعلِ هذه السيكولوجية بالإضافة إلى كونها كسولة، خائبةٍ ومرهقة في ذاتِ الوقت.
ومن هُنا تبرز -في اعتقادي- أهمية مراعاة سيكولوجية التقاضي للعمل على تبسيطِ المساطر الإجرائية، وإلا فإنّه في ظلّ تعقيد هذه الإجراءات حائلا دونَ اللجوءِ إلى القضاء.. ومن ثمّ ضياعُ الحقوق.. وهذه إحدى النتائج السلبية الكبرى المُعادية لتطلّعات القاعدة القانونية العادلة.