مكافحة التسول ومكافحة " الكزرة " / محمدو ولد البخاري عابدين

سنة 2010 أعلنت السلطات عن برنامج لتخطيط وتأهيل الأحياء العشوائية بنواكشوط، وما إن انتشر الخبر حتى بدأ سكان مقاطعات نواكشوط التسع، بما في ذلك سكان الأحياء الراقية بمقاطعة " تفرغ زينه " الذين يصنفون أثرياء، يتسللون إلى الأحياء العشوائية والإقامة في الأعرشة والأخبية التي كانت مهجورة منذ سنين تاركين قصورهم وفللهم الفاخرة والمجهزة، وبدأ آخرون في بناء أعرشة وأخبية جديدة في هذه الأحياء،

 وبدأت هجرات كثيفة من ضواحي العاصمة ومن أقصى المناطق الداخلية للبلاد نحو مدينة نواكشوط طمعا في الحصول على قطع أرضية ضمن هذا البرنامج الذي كان من المفترض أنه موجه للمواطنين المقيمين في هذه الأحياء ولا ملجأ لهم غيرها.

الأمر الذي كان يمكن تجنبه لو كانت السلطات قبل الإعلان عن هذا البرنامج طوقت الأحياء العشوائية بالجيش وقوات الأمن من كل الجهات لمنع دخول انتهازيين جدد، ومن ثم تشميع كل الأعرشة والأخبية التي يدرك كل ساذج أنها مهجورة، وأن أصحابها وضعوها هناك فقط تحسبا لتخطيط هذه الأحياء للحصول على قطع أرضية يضيفونها لقطعهم الأرضية ومنازلهم التي يملكونها، كنوع من الجشع و " كّلت النفشه "، ثم اكتتاب فرق إحصاء متعددة ونشرها في الأحياء العشوائية والانتهاء من عمليات إحصاء المستهدفين الحقيقيين في أسبوع أوأسبوعين، لتبدأ عمليات التخطيط والتأهيل دون الالتفات أو الاستماع لأصوات واحتجاجات من سيتظاهرون بأنهم محرومون وما هم بمحرومين، فلو كانوا حقا يستحقون لكانوا مقيمين في هذه الأحياء كغيرهم من المستهدفين. 

وهذه المشكلة هي التي جعلت قضية " الكزرة " تتعقد، وبرنامج تأهيل العشوائيات الذي كان مقررا له الإغلاق قبل سنوات وإعلان نواكشوط خالية من العشوائيات يتعثر ويتعذر، فبعد 9 سنوات من عمر هذا البرنامج لا زالت المشكلة قائمة، رغم توزيع ما يزيد على 120 ألف قطعة أرضية، ولا زالت معضلة " المداخلات " تصدع رؤوس الإدارة والمعنيين بالبرنامج.

كما أن الإعلان الذي أعلنته السلطات بمنع ظاهرة " الكزرة " من جديد هو الآخر مجرد إعلان أو هكذا يبدو، فعلى مدى هذه السنوات التسع، وبينما الأحياء يتم تخطيطها، كانت عمليات إقامة " الكزرات " الجديدة تجري بالموازاة مع عمليات التخطيط والتأهيل..!، وكل مقاطعات العاصمة اليوم تتمدد، لا بتخطيط وإنما ب " كزرات " جديدة، فالعشوائيات الجديدة تجاوزت اليوم سجن دار النعيم في الاتجاه الشمالي الشرقي للعاصمة، ومقاطعة تيارت تمددت بالعشوائيات الجديدة في الاتجاه الشمالي الغربي على مد البصر، وما تمددت به مقاطعة توجونين جنوبا بأحياء الترحيل المخططة تمددت بضعفه من العشوائيات شرقا على طول طريق الأمل، ونفس الشيء على طول طريق روصو جنوبا، وهكذا دواليك في عملية تمدد أفقي للمدينة لا متناه بدل التمدد الرأسي الذي يسهل تسيير المجال الحضري، ويسهل تأمين المدن ويحد من تكاليف تزويدها بالخدمات.. وقريبا ستصبح السلطات مجبرة على تخطيط هذه العشوائيات الجديدة، ولن تستطيع حينها القول إن " الكزرة " ممنوعة قانونا لأن هذه " الكزرات " الجديدة ستكون مكتظة بمواطنين في أحياء لا ماء فيها ولا كهرباء ولا صحة ولا تعليما، رغم أن 90% منهم " نازحون " من بيوتهم بحثا عن أراض جديدة!

وبالأمس أعلنت السلطات الإدارية لنواكشوط عن إنشاء هيئة خيرية لمكافحة ظاهرة التسول المنتشرة في العاصمة، وعن القيام بعملية إحصاء للمتسولين، ومن ثم القيام ببرنامج لدمجهم من خلال رواتب وإعانات وتكوينات على حرف تغنيهم عن التسول. وكما تضاعف عدد سكان " الكزرات " ثلاثة أضعاف عند انتشار خبر الإعلان عن تخطيطها، سيتضاعف أيضا عدد المتسولين في الشوارع عند انتشار خبر إحصائهم ودمجهم، كيف لا والبرنامج المعلن عنه يتضمن رواتب وإعانات وتمويلات كل يريد نصيبه منها..؟!

فمثلما كان من الأفضل إحصاء السكان الحقيقين للأحياء العشوائية قبل الإعلان عن برنامج تأهيل أحيائهم، كان أيضا من الأفضل إحصاء المتسولين الحاليين قبل إعلان برنامج لدمجهم.. وحتى لو تم إحصاء المتسولين الحاليين ومن سيظهرون من متسولين جدد، فإن أفواجا من المتسولين الجدد سيحلون محل من تم دمجهم لأن الدولة أعلنت تكفلها بكل المتسولين في عملية لن تنتهي مثلما لم تنته ظاهرة " الكزرة "!

سمعنا ولاة نواكشوط الثلاثة يقولون إن هذا البرنامج سيستفيد من التجارب السابقة المقام بها في هذا المجال، ونقول إنه لا بأس بالإستفادة من التجارب في كل المجالات، ولكن ليعلموا أن أهم تجربة في ما يخص مكافحة ظاهرة التسول هي تلك المحاولة التي تمت سنة 2013، والتي لا تختلف عما سمعناهم يتحدثون عنه في مقاربتهم الجديدة من تكفل بالمتسولين من خلال دفع رواتب لبعضهم مع إعاشتهم، وبتكوين وتمويل لأنشطة مدرة للدخل لبعضهم الآخر. لكن هل أخذوا في الاعتبار سبب فشل تلك المحاولة التي ظهر من خلالها أن الكثير من المتسولين لا يمارسون التسول بفعل الحاجة البحتة وإنما يمارسونه كوسيلة كسب سهلة، ومنهم الذين هم  في غنى عنه من ناحية المعاش، ولذلك تفلتوا وهربوا من المآوي التي آوتهم فيها السلطات معتبرين أن ما تقدمه لهم هذه السلطات شهريا يحصلون على أضعافه المضاعفة خلال أيام فقط من ممارسة التسول..؟!

لقد حكى لي سائق سيارة أجرة أن سيدة متسولة أوقفته عند ملتقى الطرق المقابل لوزارة الاقتصاد والمالية، وطلبت منه أن يوصلها إلى بيتها في مقاطعة الرياض، وبعد أن أوصلها عرضت عليه عقدا بأن يأتيها كل صباح في بيتها لينقلها لمكان تسولها وسألته بكم سينقلها يوميا؟ قال لها إنه سينقلها بمبلغ 1500 أوقية يوميا ظنا مني، يقول، أنه مبلغ تعجيزي لها وسترفضه.. لكنها قبلت دون تردد، مما يعني أنها تكسب من التسول يوميا ما يفوق هذا المبلغ بكثير وإلا لما قبلت بهذا العقد!

كما لا زلنا نتذكر حادثة التدافع التي قضت فيها عشر نسوة في تدافع أمام مؤسسة رجل أعمال يوزع الزكوات، حيث تبين أن إحدى الضحايا زوجة لأحد الجنود العاملين في وسط إفريقيا وقد حوَّل لها راتبه قبل يوم من وفاتها! كما كانت من بينهن سيدة أخرى تقيم مع أبنائها الميسورين ولا ينقصها شيء، ولم يكونوا على علم بأنها تمارس التسول إلا عندما عثروا عليها من بين ضحايا ذلك التدافع!!

فنحن إذن أمام أزمة قيم أخلاقية قبل أن نكون أمام أزمة فاقة تجبر المعدم أو الفقير على العيش على التسول، وبدون فرز المتسول فاقة ومن مصدر قوته الوحيد هو التسول، الذي قد يكف عنه إذا وجد تكفلا أو مصدرا آخر للدخل، من الممارس للتسول تكسبا وجمعا وادخارا للمال وبحثا عن " لكّمه فوكّ شبعه " فلن نصل إلى مقاربة ناجعة، وسنبقى دائرين في حلقة مفرغة ما إن نصل إلى ما نعتقد أنه النهاية، حتى نجد أننا لا زلنا في البداية بتوالد أفواج تلو أخرى من مدعي الفاقة والعجز والعوز طلبا للعون والتكفل والدمج!

ولابد هنا من أن تأخذ هذه المبادرة في الاعتبار إشراك الكل في خطتها وعدم التركيز فقط على المتسولين أنفسهم، فلابد من إشراك رجال الأعمال أو المحسنين الذين دأبوا على توزيع زكواتهم أمام مؤسساتهم، حيث يتجمهر المتسولون أمام هذه المؤسسات ليلتحق بهم كل من مر من الشارع وأحس أن هناك توزيعات ومساعدات! فهؤلاء يجب إقناعهم، بل وإجبارهم، على الامتناع عن تقديم هذه الصداقات على هذه الصورة، ودفع زكواتهم في حساب هذه الهيئة لتستخدمها في برنامجها الموجه للمتسولين، خاصة أن تسيير وصرف مداخيلها سيكون تحت إشراف إمام وشيخ مشهود له بالأمانة والإستقامة كان هو من يتولى جمع وصرف مساعدات البرنمج التلفزيوني " ويؤثرون " الشهير..

فهناك المتسولون الدائمون المحترفون، وهناك المتسولون المؤقتون الذين يتحرون توزيع المحسنين ورجال الأعمال للصدقات والزكوات، وهناك متسولو بوابات البنوك والصرافات ومحلات تحويل الأموال، ومتسولو المستشفيات والعيادات، ومتسولو محطات البنزين، ومتسولو إشارات المرور، ومتسولو الأسواق، ومتسولو محطات النقل، ومتسولو المساجد، ومتسولو المقابر، ومتسولو المطاعم والفنادق، ومتسولو برص بيع السيارات، وهناك متسولو المطار الحافظون لمواعيد وصول الرحلات الدولية، والطريف أن بعضهم كان يرفض أخذ غير العملة الصعبة التي يقدمها لهم الأجانب بعد استجدائهم بشكل مشين..!!

وهناك أيضا المتسولون الأطفال، وهناك المتسولون القادرون على العمل، وهناك المتسولات المعتمدات على استعطاف الناس بعرض ابنائهن المدعين بأنهم يتامى، أو بعرض ابنائهن المعاقين على كراسي متحركة، حتى أن بعضهن تتعامل مع معاقين لا تجمعهم بهن أيه صلة مقابل عرضهم في الشوارع وتقاسم عائدات التسول بهم مع ذويهم الحقيقيين..! وهناك أيضا المتسولون الأجانب، ليس فقط من مواطني مناطق الحروب كاللاجئين الطوارق والسوريين، بل من مواطني دول الجوار الجنوبي الذين يرمون بمعاقيهم عقليا وجسديا في شوراع نواكشوط لممارسة التسول!

وبالتالي فيجب أن يكون المشرفون على هذه الأماكن والمحطات عونا للسلطات ولهذه الهيئة في منع ممارسة التسول أمامها، وفتح شبابيك في المناطق الحيوية في المدينة لكل من يريد دفع الصدقة عن طيب خاطر وليس تحت ضغط السؤال والاستجداء! موازاة مع حملات توعوية كبيرة ودائمة في أوساط المواطنين العاديين حول ضرورة مشاركتهم في هذا الجهد من خلال تقديم ودفع صدقاتهم، مهما قلت، لهذه الهيئة الخيرية لتقدمها بدورها لمن يستحقون، بدل تشجيعهم للمتسولين على البقاء في الشوارع من خلال تقديم الصدقات لهم مباشرة، وتوضيح الجانب الشرعي لهم من أن دفع الصدقة للمحتاج مباشرة مساويا من حيث الثواب لدفعها لجهة مؤتمنة ستتولى دفعها له..

لا ينبغي أن نخدع أنفسنا إذن أو نعيد تدوير تجارب فاشلة، ولنطلق من أن التسول يمنعه القانون وما هو مطلوب هو فقط تطبيق القانون، فلنبدأ بتطبيق القانون وبتطبيقنا الصارم والدائم للقانون سيكون هناك فرز تلقائي للمتسولين الظاهر عوزهم وفاقتهم من المتسولين المحترفين للتسول تكسبا وجمعا للمال.. ليتم التكفل بالمتسولين المعوزين حقا، ويظهر لغيرهم أن التسول ممنوع بشكل لا تساهل ولا رجعة فيه. هذا إذا كانت هذه المبادرة خطوة جادة ترمي إلى تحقيق شيء ملموس لعلنا ننجح، ولو لمرة واحدة، في حملة واحدة من حملاتنا المتعثرة الكثيرة ضد المسلكيات غير المدنية، ولعلنا ننجح في القضاء على هذه الظاهرة المشينة والمستفحلة والمتفاقمة، أما إذا كانت مجرد حملة كالحملات المؤقتة ضد الحيوانات السائبة واحتلال الشوارع والرش ضد الباعوض التي لا تبدأ حتى تختفي فمعذرة..!!

6. أغسطس 2018 - 11:21

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا