لا أعرف الرجل وكيف لي أن أعرفه، فالمسافة العمرية والعلمية شاقة، ولست من أولائك الذين يبحثون عن منفعة أو تقرب إلى قامة مهما كانت، علمية أو أدبية أو سياسية أو دينية. أتيحت لي فرص عديدة للالتقاء بالعديد من القامات وللأسف لا أتوفر على صور تذكارية معهم، ولعلي في ذلك أكثر تصالحا مع مؤلفاتهم ومنجزاتهم العلمية. أو أنني أميل إلى الفطرة. أول عملية تواصل تمت من خلال كتاب
"بلاد شنقيط المنارة.. والرباط"، وحدث ذلك كما تجري الأمور عادة بين باحث ومثقف وكاتب وشاعر رشيق الأسلوب. كنت في ذلك الوقت أعد ورقة حول موضوع يتعلق بدور الجامعة في المجتمعات العربية، وقِدم هذه الجامعات مقابل تأخر مجتمعاتها: القروين، الزيتونة، الأزهر، وأسبقيتها من حيث التصنيف على الجامعات الأوربية عموما. ولأن أصول هذه الجامعات تعود إلى رموز دينية وهي المساجد والجوامع التي كانت تلعب دورا مهما في مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة، وجدت في "المنارة.. والرباط" الذي أعتبره من المؤلفات المؤسسة ورأس مال رمزي، طبعا إلى جانب مؤلفات أخرى مهمة لا يقلل من أهميتها في شيء عدم ذكرها في هذا المقام وهي كثيرة متنوعة. ومع أن الكتابة في بلادنا ودراسة الأرض والبشر والتاريخ والقبائل من المهام الصعبة. فإن كتاب المنارة والرباط وتركيز أطروحته حول "المحاضر" ينصف الجامعات الموريتانية "المتنقلة"، والتي هي في نظري من منظور القيمة التاريخية، بصرف النظر عن العلمية لا تقل أهمية عن الجامعات المذكورة. لكن يبقى السؤال كيف تحول الجامع أو المسجد إلى جامعة ولم تتحول "المحضرة" حتى في ظل الدولة؟. وكيف انتقلت شنقيط من المنارة والرباط إلى موريتانيا؟. وما هي عليه من فقر وتأخر علمي وثقافي.
ولا أجد تفسيرا لهذا الأمر إلا في تقاعس النخب العلمية. لقد حدث ذلك عندما تم ضرب "المحضرة" من الاستعمار الذي ألحق البلاد ـ بعد أن كانت منارة للعلم ورباطا للجهاد ـ ببلاد أخرى أكثر من نصف قرن من الزمان كاد أن يطمس جل معالمها، وعند مرحلة الاستقلال والمشروع التحديثي للدولة الفتية، لم نلمس أي دور للنخب العلمية. دائما يقدم مبررا ذرائعيا وهو دور الذاكرة في الحفظ على التدوين، أو الترحال على التمدن، مع أن جميع شعوب المنطقة تعرضت لعملية تحديث في فترة زمنية واحدة، خلال الاستعمار ونتيجة له. وحتى عندما دخلنا عهد انتفاضات وثورات العسكر ووعودهم وغضبهم الأزلي لم يغير ذلك من الأمر شيء.
صحيح أن الاستعمار والدولة قاما بعملية هدم لا غبار عليها، طالت المجتمع والنخب، وإن كان من المأمول في أن يكون هدم الدولة من أجل البناء والتجديد والمستقبل. إلا أن الواقع بدا معكوسا وكأن نخب شنقيط لا تعنيهم موريتانيا. أو أن موريتانيا لا تعنيها شنقيط. وأي ولادة تلك. أعود مرة ثانية إلى "الجامعة البدوية المتنقلة" "المحضرة"، ولماذا هي ليست جامعة كغيرها؟ إن الأمور واضحة، فلم يرفع شنقيط إلا نخبها، وكذلك لم يخفض موريتانيا إلا نخبها. وإنه لعمري لا يوجد شيء يرفع الأمم سوى نخبها، ولكن عندما تتحول النخب إلى متفرج متقاعس، أو إلى هارب متفرج، وعندما يفصل بين العلم والسياسة فالنتائج حتمية.
أقول هذا الكلام وأنا أراقب البلاد فارغة تماما ـ بعد مرور أكثر من نصف قرن وهي مدة كافية للعبور من جميع المراحل العمرية لبناء المجتمعات والدول ـ من الحياة العلمية: دور نشر عالمية، مراكز دراسات عالمية، جامعات لها حضور دولي، وفي المقابل أراقب أغلب المثقفين خارج البلاد. أراقب البرلمانات لا تمثل، والوزراء، والمدراء ..إلخ.