كل من على أديم هذه الأرض فان لا محالة، ولكن كل سالك لطرق موريتانيا، فان كذلك، هكذا تقول الأحداث والوقائع، وهكذا تشهد الدماء التي تسيل مهراقا مرات كل يوم، والأرواح التي تزهق غدوا وعشيا، في مشهد سرمدي، تتحول معه الحياة البشرية إلى بضاعة مزجاة، لا تثير اهتمام أي كان.
فكم من أم ثكلت ابنها في رحلة اللاعودة؟ وكم ابنا تيتم، قبل وصول رحلة لم الشمل؟ الأرزاء المهولة،
على طريق سمي تيمنا ب"الأمل" فانقلب إلى "ألم"، لا تندمل الجراح منها، إلا ليعاودها الألم من جديد.
تسيل الدموع مدرارا كل يوم، فمن لم تسعفهم عدالة السلطة، أسعفتهم الطرق بتوزيع الموت بالقسط، فما من أسرة، إلا وفقدت ابنا، أو أبا، أو أما، أو فقدت كل أفرادها دفعة واحدة.
رائحة الموت يستنشقها كل عابر طريق في هذه البلاد، فلم تعد البغال وحدها هي التي تعثر، السيارات بكل أشكالها، وألوانها، وأحجامها، تتحول منافعها إلى بأس شديد.
ولا يستثني المنون رضيعا، ولا شيخا هرما، ولا امرأة، أو رجلا، الكل يفنى على طرق موريتانيا، التي لا تبقي ولا تذر، من البشر، لا تبعث سالكها إلا على القلق، بدل السعادة بلقيا، من إليهم جازف بالسفر.
ركوب السيارات هنا أضحى ركوبا للموت، أو سفرا نحو نهاية الأجل المحتوم، أزكمت الأنوف شدة رائحة الموت، وجفت المٱقي من كثرة الدموع، ولا شيء تغير.
ذات الطريق تودي بحياة من يسلكها كل يوم، ولا ملجأ منها إلا إليها، نلهج بالدعاء بالرحمة في اليوم سبعين مرة، هذا رحل في انقلاب سيارة، وذلك كسر في تصادم بين سيارتين، على طريق ضيق، متهالك ومليء بالحفر، وهذا أصيب، لكن الإسعاف تأخر، فأسلم الروح. الأرواح رخيصة في عالمنا، نشيعها بالتمتمات والدموع، ولا نستفيد من التجربة، ولا نأخذ بالأسباب، فما إن نعود من تشييع عزيز فقدناه على شارع محدودب، من فرط الأحداث التي تقع كل يوم عليه، حتى نعود من حيث أتينا، في دائرة مفرغة، إلا من القتلى والجرحى.
لقد أضحى الطريق مفزعا، والسفر إلى الأهل، بعدوا أو قربوا من العاصمة، سفرا إلى المقابر، أو إلى المستشفيات، فيغيض ماء بشارة الوجه، بمجرد ركوب السيارة. ولا يمر يوم على موريتانيا دون قتيل أو جريح، جراء حادث سير، وينال الطريق الرابط بين نواكشوط، والعديد من مناطق الشرق الموريتاني النصيب الأوفر، فعلى ظهره قضت الأسر، وسالت دماء غزيرة، وتطايرت أعضاء البشر شظايا عدة.
إنه طريق القلق، والحزن، طريق لفظ الأنفاس الأخيرة، وكل طرق موريتانيا كذلك، إنها طرق الحتوف، والسير نحو المثوى الأخير.
نموت منتحرين كل يوم ونحن في كامل وعينا، لكن لا خيار أمامنا، فالطريق واحد، ولا يقود إلى الحياة، نتصنع الوصول إلى بر الأمان في كل رحلة، ويندر أن ينجو من بيننا ناج، فالموت حين يسلك الإنسان طريقه، لا يستأخر عنه ساعة ولا يستقدم.