في مثل هذا اليوم من سنة 1960 خرجت من رحم الصحراء والمعاناة دولة اسمها الجمهورية الإسلامية الموريتانية؛ وقد ترصدتها النوائب وأنكر عليها كل الأخوة العرب إعلان الاستقلال باستثناء دولة وحيدة هي "تونس" وسط مطالبات من المغرب بعودة الإقليم المتمرد (موريتانيا) إلى حضن الدولة المركزية وفق "أطروحات علال الفاسي" وأعلنت المغرب يوم استقلال موريتانيا يوم حداد وطني.
لقد شرعت فرنسا تفكر في التخلي عن السيادة الكاملة في بعض مستعمراتها، بعد أن أنهكتها الحرب العالمية الثانية، لكنها موازاة مع ذلك بدأت باستنزاف ثروات البلدان المحتلة التي من بينها موريتانيا، دون أن تخلف بعد رحيلها نزرا يسيرا من البنى التحتية، كما فعلت في معظم مستمعمراتها في القارة الإفريقية.
مما حتم على الجيل المؤسس للدولة الانطلاق من نقطة الصفر وسط بحر من الرمال والأزمات فكيف تم له ذلك؟!
إرهاصات الاستقلال
في فرنسا أنشأت الإدارة الفرنسية نظام 27 أكتوبر 1946 بموجب دستور الاتحاد الفرنسي الذي شمل الجمهورية الفرنسية بولاياتها ومقاطعاتها وأقاليمها فيما وراء البحار، إضافة إلى الأقاليم المحمية والمستعمرات، ونظرا لذلك أصبحت موريتانيا إقليما سياسيا متميزا ينتمي إلى اتحاد فيدرالي يدعى النيجر (مالي) ويضم السنغال والسودان الفرنسي.. إفريقيا الغربية (بوركينا أفاسو موريتانيا)، فولتا العليا (بنين) غينيا وساحل العاج (الداهومي).
وقد ساهمت هذه الإصلاحات في إعطاء الأقاليم امتيازات سياسية ودستورية، وتمتعت بحق إنشاء هياكل تشريعية وتنفيذية تابعة للوالي العام الفرنسي المنتدب من طرف الحكومة، كما أعطى لها ذلك الحق في إنشاء جمعيات إقليمية منتخبة لها صلاحيات محدودة ولها حق اختيار ممثل لها في المجلس الأعلى لغرب إفريقيا الفرنسية.
وقد استطاع الزعيم أحمد ولد حرمه ولد ببانه هزيمة المرشح الفرنسي "إيفون رازاك" المدعوم من طرف الإدارة الاستعمارية لتتلاحق الأحداث الدولية والإقليمية متسارعة، مما أجبر فرنسا على إعادة النظر في سياساتها لتمنح المستعمرات استقلالا ذاتيا وهو ما نص على إنشاء مجلس حكومي سنة 1956. كانت المرحلة الأولى في 20 مايو 1958 حين الأستاذ المختار ولد داداه نائبا لرئيس مجلس الحكم الذي يرأسه الوالي الفرنسي، منذ ذلك الحين بدأ المختار -حسب ما ورد في مذكراته- تنسيق الجهود الرامية إلى إنشاء الدولة الموريتانية المستقلة، وفي يناير 1958 أسندت الوزارة إلى الموريتانيين وتشكلت أول وزارة من الموريتانيين وكانت أولياتها على النحو التالي:
1-نقل العاصمة.
2-استغلال المعادن في أقرب وقت للمساعدة في نمو البلاد.
3-تطوير الاقتصاد التقليدي.
4-تكوين الشباب الموريتاني بإدخال التعليم العربي ونشر التعليم الفرنسي.
5-عدم الرضوخ لمطالب المغرب.
وقد تعرضت موريتانيا في تلك الفترة لهجمات المغرب ومطالبته بضمها إقليم من أقاليمه، كما تعرضت لضمها إلى فيدرالية مالي، وفي هذا الصدد شهدت سنة 1959 حدثين غير مؤاتيين:
الأول: ميلاد الحزب الفيدرالي الإفريقي الذي يرأسه سينغور وموديبو كايتا.
وثانيهما: إنشاء فيدارلية مالي بقيادة الرجلين، وهو ما انعكس على الساحة الوطنية تجلى ذلك في مطالبة أعضاء في الجمعية التأسيسية الموريتانية بالانضمام إلى الفيدرالية المذكورة ومن بين هؤلاء:
الشيخ سعدبوه كان
وسليمان ولد الشيخ سيديا
والداه ولد سيدي هيبه
ومحمد عبد الله ولد الحسن المستشار الأعلى لـ "إيفون رازاك".
الأمر الذي أشعل فتيل التوترات خاصة في المناطق الشرقية والجنوبية المتاخمة لكل من مالي والسنغال. وقبل إعلان الاستقلال كانت بعض الأحزاب تعلن معارضتها له فحزب "الاتحاد الوطني الموريتاني" طالب بالانضمام إلى مالي ومن زعمائه: الحضرامي ولد خطري، بدوره طالب "حزب النهضة" بالانضمام إلى المغرب في حين طالب "حزب الاتحاد الاشتراكي للمسلمين" الذي يتزعمه أحمد ولد كركوب بعدم إعلان الاستقلال.
في قلب الصحراء
كانت المشكلات المتعلقة بنقل العاصمة على مائدة أول جلسة للحكومة الأولى، والتي تمت تحت رئاسة الوالي "موارك" وقد تقرر عقد اجتماع في انواكشوط في شهر ديسمبر 1958، لتحديد المكان المناسب لإقامة العاصمة الفتية، وفي 5 مارس من نفس السنة وضع الحجر الأساسي لبناء العاصمة الجديدة.
حينها لم يكن انواكشوط سوى قلعة إدارية وقرية صغيرة لا يتجاوز تعداد ساكنتها 200 شخص أغلبهو بدو، ويتشبثون بتقاليدهم الأصيلة.
يقول المختار في مذكراته- لم يكن الفرنسيون والسنغاليون بل ولا بعض الموريتانيين يرغبون في مغادرة (سان لويس) الوادعة التي يتوفر فيها كل شيء، ليلتحقوا ببلدة وهمية لا وجود لها إلا على مجموعة من اللوحات المبعثرة في مضارب البدو، على كثيب لا يرتاده في الغالب غير أسراب من بنات آوى (أي الذئاب) وأفراد من البدو العابرين، بلدة لا يتوفر فيها أي تموين بأي مادة حتى مياه الشرب.
لقد كان من اللازم إقناع ذاك الجمع بأن موريتانيا لم تعد هامشا للسنغال على المواطنين ووكلاء الإدارة الراغبين في متابعة الخدمة في مصالح الإدارة الموريتانية أن يغادروا تدريجيا مدينة (سان لويس) للالتحاق بمدينة اللوحات المبعثرة التي تشيد في قلب البادية، حيث يتعرضون لخطر الموت ظمأ وجوعا، ويتفوه أكثر القوم مناهضة لنواكشوط. وفي الفترة الوجيزة التي امتدت من 5 مارس 1958 إلى 19 نوفمبر من نفس السنة أصبحت كل الأنشطة السياسية تدار في انواكشوط، رغم عدم الاستقرار والترحال اللذان طبعا تلك الفترة يتحدث ولد داداه في مذكراته قائلا: كان مقامنا خلال الأسابيع الأولى في حي لكصر حيث أقام بعضنا مع السكان، وبعضنا أقام في فندق "كوميز" وهو استراحة بدوية أدخلت عليها بعض التحسينات، وكنا نتناول الطعام غالبا عند أحد السكان بصورة جماعية، وكان بعض أصحاب الدكاكين وأعيان القرية يدعونا دوريا على الطريقة الموريتانية بصورة جماعية. بعد ذلك قررنا الانتقال إلى حي العاصمة والاستقرار فيه، وبما أن منازلنا لم تكتمل فقد كان على كل واحد منا أن يستقر في منزله كيفما اتفق حتى يتم البناء.
وكان لدي سرير من أسرة السفر أنصبه مساءا وأطويه فجرا لأترك المكان لإتمام الأعمال في المنزل، وقد أقمت أول مكتب لي بانواكشوط في "مرآب" الفلة الصغيرة التي أسكنها، ثم حولته فيما بعد إلى فلة صغيرة وضعت فيها المكتب ولا يتسع لأكثر من مقعدين زيادة على المقعد الذي أجلس عليه، وكنت إذا زاد عدد من معي أضطر للبقاء واقفا، وحتى ونحن واقفون لا يمكن أن يزيد العدد على خمسة أشخاص أو ستة.
أما الجمعية الوطنية فقد اتخذت من حجرات المدرسة الثلاثة مقرا لها. هكذا كانت بداية انواكشوط كل شيء يأتي عن طريق مدينة روصو بما في ذلك مياه الشرب، وكان النقل يتم عبر طريق صحراوي غير معبد تتوقف فيها الحركة ساعات أو أيام عند سقوط أولى كمية من المطر ويحتاج قطعه إلى ساعات متواصلة من السفر.
تحديات وحلول
شكل انضمام الثلاثي الدي ولد سيدي بابه، ومحمد فال ولد عمير، ومحمد المختار ولد أباه إلى المغرب طعنة خطيرة لمسعى الاستقلال لأن انضمام هذه الشخصيات زاد من خطورة مطالبة المغرب بتبعية البلاد التي يعتبرها إقليما متمردا يجب أن يخضع لسيادتها، وللتصدي لهذا الدعم الذي من شأنه إضفاء المزيد من الشرعية على مطالب الجارة الشمالية جاءت الدولة إلى عقد مؤتمر ألاك كان ذلك في يوم 2 مايو 1958 وحضره لفيف من الشخصيات الهامة وأعيان البلد وقواه الحية، وقد ناقش المؤتمر مختلف المشاكل المطروحة على المستويين الداخلي والخارجي وأصدرت القرارات بشأنها وإليك عزيز القارئ أهم القرارات التي خرج بها المؤتمر:
يقرر المؤتمر الدفاع عن الحوزة الترابية والتصدي لكافة التهديدات أيا كان مصدرها.
يقرر بقاء موريتانيا جزءا من مجموعة غرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية مع الاستقلال الداخلي التام، والرغبة في نيل الاستقلال الوطني.
يقرر ربط علاقات ودية مع حزب التجمع الإفريقي، والتجمع الديمقراطي الإفريقي، بغية تحقيق عمل متكامل مع هاتين الفئتين المتنازعتين على أن لا ينحاز لأي منهما.
يعلن رفضه القاطع لأي انضمام سياسي أو إداري إلى منظمة عموم الأقاليم الصحراوية، ويوصي بعقد اتفاقات اقتصادية معها على أن يتم التفاوض في كل الاتفاقيات.
وجه المؤتمر نداءا خاصا إلى فرنسا يطلب منها فيه وضع حد للحرب في الجزائر وبدأ المصالحة في البلدان العربية.
ثمرة النضال
كانت الناس تتحدث عن الاستقلال دون أن تعي معنى الكلمة.. بدأت التحضيرات وصلت الوفود التي ستشارك في هذا الحدث الكبير خاصة إذا ما تعلق الأمر بأبناء الصحراء الفضوليين، تم الإعلان في منتصف الليل وسط جمع غفير أن موريتانيا أصبحت دولة مستقلة في 28 نوفمبر 1960 وانطلقت الاحتفالات تخليدا للمناسبة، وازدان المكان بالألوان الوطنية الخضراء والصفراء وقد كانت الدهشة بادية في وجوه بعض شيوخ القبائل -حسب مؤرخين للحدث- لاعتقادهم أن الخروج من حلقة العنف المتواصل بين القبائل يمر حتما عبر الإشراف الأجنبي وتحديدا الاستعمار الفرنسي.
وقد وقف الأستاذ المختار ولد داداه في الجموع خطيبا بوصفه أول رئيس للدولة التي خرجت للتو من عباءة المستعمر وهذا نص الخطاب الذي ألقاه في تلك المناسبة: " سيداتي سادتي لن أحاول إخفاء الشعور الذي يغمرني في هذه اللحظة؛ لقد أصبح حلم كل رجل -وكل امرأة- في هذا البلد حقيقة؛ فمنذ الآن أصبحت بلادنا تملك مصيرها بيدها وتواجه مستقبلها. بعد سبات طويل تدخل الأمة الموريتانية -الفخورة بثراء ماضيها- مصاف الشعوب المستقلة. كيف لا نشيد -هنا- بالعمل الشخصي للرجل الذي استوعب -برؤية ثاقبة وغزارة فكر- تطلعات شعوب ما وراء البحار.
لقد استطاع الجنرال ديغول مطور سياسة برازفيل؛ حيث وجدت بذرة مجموعة الشعوب الحرة والمتساوية -استطاع- أن يفهم طابع التحرر -الذي لا رجعة فيه- من الاستعمار، وضرورة هذا التطور الذي وصل اليوم إلى غايته. لقد مكن بذلك هذه الشعوب من الحصول على استقلالها في إطار الصداقة مع فرنسا.
موريتانيا لن تنسى ذلك ابدا. ولن ننسى -كذلك- جميل الشعب الفرنسي؛ وبمساعدتها في تحرير الأرض الإفريقية تكون فرنسا وفية لروحها ولتاريخها.
إن حصيلة نصف قرن من الوجود الفرنسي في موريتانيا هي -أولا- وحدة الوطن، وكذلك مجموعة من الإنجازات مكنت في جميع المجالات من القيام بالكثير من التقدم لا يمكن تجاهله بفضل الجهود المشتركة للفرنسيين والموريتانيين.
إني متأكد أن هذا التعاون سيتواصل على أسس جديدة لمصلحة شعبينا. إن حضوركم هنا -سيادة الوزير الأول- لهو الضمان الأكيد لذلك.. ونحن نثمن هذا التقدير، وقد تأثرنا خصوصا بالعبارات التي وردت في خطابكم قبل قليل. في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخها، وفي الوقت الذي تلتحق فيه موريتانيا بشقائقها في الأمم الأفريقية التي سبقتها على طريق الاستقلال.. يسعدني أن أحيي رؤساء الدول الأفريقية -أو وفودها- الذين أبوا إلا أن يؤكدوا مجددا تضامنهم الذي لا يتزعزع معنا. إن بلدنا فخور -كذلك- بأن يحاط بحب الكثير من الأمم التي يزيد وجود ممثليها معنا هذه الاحتفالات ألقا. صحيح أن بعض الأماكن بقيت شاغرة.. ونتمنى أن يتم شغلها؛ إلا أنني مقتنع بأن سوء الفهم المؤقت الذي يتولد عن ذلك سوف ينجلي قريبا. إن موريتانيا ترغب في إقامة علاقات تعاون وثيقة مع جميع الشعوب.. وكأمة إفريقية فإنها تريد توطيد علاقاتها مع الأمم الإفريقية الأخرى التي تتضامن معها في نبذ أي لجوء للعنف وكذا في البحث المشترك عن حلول لجميع المشكلات الأفريقية.
إن موريتانيا ترغب في أخذ موقعها في منظمة الأمم المتحدة التي سبقتها إليها دول إفريقية هذه السنة 1960 التي تشكل مرحلة حاسمة في تاريخ إفريقيا.
إن موريتانيا -بطبيعتها الجغرافية وتنوع سكانها- تريد أن تلعب دور همزة الوصل بين إفريقيا الشمالية وإفريقيا السوداء.. وتبرهن أعراقها المتحدة أخويا على إمكانية ارتباط عالمين مختلفين حول مبدأ ومصالح مشتركة إن موريتانيا الواعية للدور المنوط بها لن تدخر أي جهد للحفاظ على مناخ الوئام والتعاون الوثيق الذي سيمكنها من القيام بالمهمة التي أخذتها على عاتقها.
كما تتمنى موريتانيا انتهاء الصراعات الدامية التي يعيشها الإخوة الأفارقة في أي مكان توجد فيه بؤرة للتوتر.. وخاصة في الجزائر التي يجب أن يمارس شعبها حقه في تقرير المصير وإنهاء ست سنوات من المعاناة.
أما فيما يخصنا -مواطني الأعزاء- ففي الوقت الذي بدأنا فيه تحمل مسؤولياتنا الخاصة علينا أن نتمعن في الواجبات التي يمليها عليها ذلك.
مما لاشك فيه أن من حقكم أن تشعروا هذه الأيام بالنشوة؛ فمؤسساتنا المستوحاة من المثل الديمقراطية تزاول عملها، ويتم تنظيم الدولة من القاعدة إلى القمة.. علينا أن نعي جسامة العمل الذي ما يزال علينا إنجازه.
في المجال السياسي -ومن أجل تهذيب الجماهير وخلق وعي وطني- تجب علينا تنمية روح التضامن ومفهوم الخدمة العمومية لتجاوز المجموعات القبلية والعرقية؛ وبذلك -وحده- سنحقق التطور من القبيلة إلى الأمة.
وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي.. ولضمان حياة أفضل، وتحرير الانسان من قبضة الظروف الطبيعية الصعبة في بلادنا.. علينا أن نعطي دفعا جديدا لاستغلال ثرواتنا.
إنني متأكد أننا لن نخوض هذه الحرب وحدنا، وبأننا سنحصل على المعونات الضرورية. مثل موروثها التاريخي.. فإن الموروث الروحي الموريتاني ستتم المحافظة عليه بجهودنا وتضحياتنا. إن بلدنا قدم الكثير في الماضي من أجل إشعاع الإسلام يظل فياضا بالدين وبالحضارة الاسلامية؛ ووفاء لتقاليدنا الإنسانية فإننا نرفض أي تقوقع.. ونؤكد روح التسامح التي استوحينا منها دستورنا. هذه -ايها السادة- هي همومنا.. في هذه اللحظة يحتفل الموريتانيون في كل مكان باستقلال الوطن.. الفلاح، وحضري النهر، والمنمي في خيمته، والعمال في المناجم وفي الورشات، وسكان القرى والمدن.. بنفس الفرصة؛ مع جميع الموريتانيين في الخارج، الذين يحيون بداية عهد جديد في هذه العاصمة الوليدة.. أدعوكم إلى الاعتراف برمز إرادة شعب آمن بمستقبله.
عاشت موريتانيا حرة ومتآخية".