ظلت بلادنا إلى عهد قريب تنظر إلى مفهوم الأخلاقيات إما بمعنى أدبيات أو أخلاقيات المهن (code et charte déontologiques) وإما من الجوانب ذات الصلة بكرامة الإنسان وحقوقه والحريات الأساسية وبمحاربة الفقر وحق المواطن في بيئة صحية وفي الولوج إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة ومياه الشرب النظيفة والسكن اللائق (انظر "الأخلاقيات في موريتانيا: الواقع والآفاق المستقبلية").
وقد يرد تعاملها سابقا بهذه الطريقة مع الموضوع إلى أسباب عديدة منها ضعف أو انعدام البنية التحتية المتعلقة بالبحث العلمي والتكنولوجي الوطني في مجالات الطب والبيولوجيا وعلم الوراثة (بما فيه الهندسة الوراثية) والتكنولوجيا الحيوية والهندسة البيوطبية وغير ذلك.
ومنها أيضا قلة الإحساس أو التأثر المباشر بالمشاكل الكبرى التي تطرحها أو تثيرها البحوث العلمية والتكنولوجية عبر بعض تطبيقاتها المخالفة للفطرة السليمة أوالدين كالاستنساخ والمتاجرة بالأعضاء والأنسجة والخلايا البشرية وعملية الإنجاب الطبي المدعوم مع متبرع والقتل رحمة (euthanasie)...إلخ.
أما الاهتمام الذي أصبحت الدولة توليه حديثا للأخلاقيات حسب إعلان نورمبرغ 1947 فقد تمثل في المصادقة 2016 على القانون رقم 2016ـ027 والمقرر المشترك بين وزارة الصحة ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي رقم 324 كما ذكرنا في مقال نشر سابقا في موقع موريتانيا الآن تحت عنوان " الأخلاق والأخلاقيات: أين نحن من هذه الموضة الصاعدة ؟".
نعم إن موريتانيا بهذه الإجراءات قد خطت نحو البيوتيقا أو الأخلاقيات الحيوية (bioéthique) بعد تركيزها طويلا على الأخلاقيات المهنية دون غيرها.
وقد يقول قائل إن استيعاب السلطات العمومية لمفهوم الأخلاقيات الحيوية ما زال ناقصا إذ تعد مقتضيات النصين الجديدين متعلقة أساسا بالأخلاقيات البيوطبية.
ولكن لا يختلف اثنان حول كون التبني الرسمي للأخلاقيات الحيوية جاء نتيجة لمجموعة من الضروريات من أبرزها وجود:
1. كلية للطب يأمل الكثيرون أن يصاحبها تطور للبحث العلمي في مجال الطب البشري والاختصاصات المرتبطة به؛
2. معهد وطني للبحث العلمي في مجال الصحة العمومية مرشح لتوسيع حقل نشاطه وتطوير برامجه العلمية وعلاقاته مع الهيئات المختصة وطنيا وعالميا؛
3. معهد للتخصصات عهد إليه بتكوين الكادر البشري المتخصص وبرفع قدرات العاملين في حقل الطب بمختلف تخصصاتهم ومهنهم؛
4. مركز لنقل الدم مكلف بتأمين هذه المادة للمستشفيات في العاصمة وفي المدن الداخلية، وأهمية نقل الدم في إنقاذ الأرواح البشرية ودقة ظروف حفظه وتداوله يجعلان هذا المركز يحتاج كثيرا إلى خلق وتطوير فروع مجهزة في عواصم الولايات قبل أن يتوسع انتشارها وتعم جميع مقاطعات البلاد؛
5. جراحة طبية يتزايد عددها ونوعياتها مما يفرض وضع ضوابط ورقابة حتى تتم وفق الشروط المتعارف عليها في مجال البيوتيقا والتي منها الموافقة الصريحة والقانونية للمريض؛
6. كثرة الأخطاء الطبية بدءا بالكشف على المرض وانتهاء بالأخطاء الجراحية ومرورا بوصف خاطئ للدواء؛ والكارثة هنا أن تدين المجتمع الموريتاني وقبليته وعشائرية تحول حتى الآن دون محاسبة مرتكبي الأخطاء بما فيها تلك المؤدية إلى الإعاقة أو الموت؛
7. شبكات محلية للمتاجرة السرية بالأعضاء البشرية مرتبطة بالخارج؛
8. ثروة حيوانية هائلة تعاني من أمراض تقليدية عديدة وأخرى صاعدة تتعدى أضرارها الحيوانات لتصيب الإنسان مثل الحمى النزفية وجنون البقر وحمى الطيور وغيرها؛
9. مركز للتربية الحيوانية والبحوث البيطرية؛
10. تزايد إدخال الأدوية المزورة والمواد الغذائية الضارة؛
11. جامعتين تضمان العديد من الكليات ذات الاختصاصات المتنوعة ثم مختبرات ووحدات للبحث العلمي في تطور مستمر؛
12. العديد من مؤسسات البحت العلمي التابعة مباشرة لوصاية قطاعات يعتمد عليها الاقتصاد الوطني مثل الصيد البحري والثروة الحيوانية والزراعة والمعادن؛
13. أخطار تهدد البيئة مع ارتفاع الطلب على رخص التنقيب عن المعادن في البر والبحر واستعمال المواد الكيماوية في الزراعة وغيرها (آثار سلبية على الثروات اليولوجية وعلى المحيط بما فيه السكان المجاورة للمناطق التي تقام فيها نشاطات التنقيب أو الزراعة..إلخ)؛
14. تصاعد مظاهر قد يطلق عليها "التلوث الأخلاقي" مثل تعاطي المخدرات والحرية الجنسية وتغيير الجنس وزواج المثليين والاستنساخ..إلخ.
كما هناك أيضا العديد من مراكز الطب التقليدي والصيدليات والعيادات الخاصة والمدارس الحرة التي تمارس مهامها في فوضوية وخارج نطاق السيطرة حيث أنها لا تخضع في الواقع إلا لضمائر أصحابها ولمدى إحساسهم بالمسؤولية أمام الله وأمام مواطنيهم.
ومهما تنوعت التفسيرات بشأن دوافع انتقال اهتمام السلطات العمومية من الأخلاقيات المهنية نحو الأخلاقيات الحيوية (البيوتيقا) وغيرها، فإن قانون 2016 واللجنة التي رافقته يشكلان خطوة فعلية في سبيل اللحاق بركب الدول التي طورت آليات تصديها لأخطار التقدم العلمي والتكنولوجي على النبات والحيوان والبشر وعلى العناصر البيئية اللاأحيائة (éléments abiotiques de l’environnement).
بعبارة أخرى إننا نتمنى ـ كما يتمنى كل موريتاني واع لأهمية أخلاقيات العلوم والتكنولوجيا ـ أن يكون وراء ما حصل من إجراءات إرادة سياسية حقيقية ومستمرة هدفها تطوير البنية التحتية للتعليم العالي والبحث العلمي وضبط أنشطة مختلف الكليات ثم المختبرات ووحدات البحث العلمي داخل الجامعات وخارجها وذلك وفق قواعد ومبادئ البيوتيقا.