ليست المرة الأولى التي تقام فيها انتخابات مجلس الشيوخ في موريتانيا ...وليست المرة الأولى التي يغير فيها السياق السياسي مجريات الأحداث بزاوية ما ..وتختلط فيها الأوراق وفق الطبعة الجديدة لسيناريو المواقف ..لكن المتأمل للانتخابات التي تضرب أطنابها الآن يلحظ أن ثمة معطيات جديدة - خاصة إذا ما تمت مقارنتها بالطبعات الأخيرة التي أعقبت الانقلاب على نظام ولد الطايع وأبرز تلك الملاحظات :
- العودة القوية لحزب النظام –حتى لا أقول حزب الدولة- بعد أن نافسته المعارضة منافسة صاخبة بمختلف أطيافها، ولنا أن نتذكر أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة شهدت تحالفات مميزة بين الأطياف المعارضة مكنتها من الحضور بشكل قوي تحت قبة البرلمان.. وإن ظل الجناح الممثل للأغلبية مسيطرا ..لكن تلك التحالفات أثمرت صخبا برلمانيا مكن من مناقشة العديد من القضايا،، والاعتراض على العديد من الملفات المعروضة للمصادقة عليها ..بيد أن انعدام تلك التحالفات في هذه الاستحقاقات سيمكن الحزب الجديد-التليد من السيطرة براحة تامة على النتائج ...فالحزب الحديث النشأة شكل قوة مكنته من الترشح في كل المناطق في حين عجزت المعارضة عن ذلك واكتفت بترشحات محدودة.بل وأكثر من ذلك انهال العديد من المترشحين تحت تلك القوة لحزب خرت له الجبابرة ساجدين قبل أن يبلغ الفطام.ورضوا من الغنيمة بالإياب ..وكل ذلك صب لمصلحة "حزب النظام"وهي –لعمرك- شنشنة تذكرنا بسيرة الأب الشرعي لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية ..ألا وهو الحزب الجمهوري الذي ظل مهيمنا بشكل كبير على مجريات الانتخابات أيا كانت..حتى رمقه الأخير قبل البعث والنشور في أ ثواب مستقلة"..ومواصلة المشوار تحت يافطات مختلفة..ويبدو أن الحزب الحفيد سيقوم بما عجز عنه وريث :الجمهوري" عادل الذي نغص عليه التأزم الذي شهدته البلاد أيامها ..
وتأتي هيمنة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية بعد تمكن رئيس الحزب محمد ولد عبد العزيز من التجاوز في الشوط الأول مما يعني أن تحولا قويا قد طرأ على الساحة السياسية أثخن في تلك القوة التي مكنت المعارضة من ولوج الشوط الثاني في رئاسيات 2007م ودخول البرلمان قبل ذلك بشكل مرضي ..والنتيجة المتوقعة لهذا التغير هي تمتع الحكومة براحة بال وطمأنينة نفس تحت قبة البرلمان ..وضعف وخور في أداء المعارضة تحت نفس القبة.
- لعل من أهم التطورات الجديدة التي صاحبت هذه الاستحقاقات تلك الفجوة –السراح الذي حدث بين الفرقاء المعارضين والذين كان بإمكانهم لو أعادوا سنة التشاور والتحاور أن يشكلوا "جبهة " جديدة تضخ دماء قوية تحت قبة البرلمان حتى لا تتحول إلى غرفة تكرير و تسجيل لما تشتهيه الحكومة وترسمه دون تأويل أو تحوير أو تعطيل
وقد شكل التحالف بين الاتحاد من أجل الجمهورية مع تواصل-مفاجأة الموسم- تحولا فارقا في الساحة السياسية بين الحزبين ..ولا شك انه أثار كثيرا من التساؤلات البرئية تارة وغير البريئة تارة أخرى منها ما ظهر سياسيا وإعلاميا ومنها ما بطن ..لهذا السبب أوذاك
ويبدو ذلك التحالف محل مفاجأة لكونه تحالف بين أحد مكونات المعارضة مع حزب يقود الأغلبية وهي سابقة من نوعها ..سيكون لها ما بعدها خارج وداخل البرلمان ..فغدا سيضطر شيوخ "الاتحاد" إلى اتخاذ مواقف تتلاءم مع إ طارهم السياسي كأغلبية فيما سيجد "شيوخ" تواصل أنفسهم في إطار سياسي آخر لا يؤمن على نفس المواقف ولا يرى ضرورة للوقوف في ذات المواقف..وحينها سيكون ذلك الاختلاف الذي قد يصل حد التناقض انزياحا طبيعيا عن "الشراكة" الانتخابية ...وكأن المطلوب هو الوسيلة التي يتوصل بها هذا الفريق أو ذاك للهدف المنشود!!
قد ينزعج البعض أو يتبسم ساخرا-أضحك الله سنه- من هذا الطرح ويعتبره بدائيا لا يتفهم التغيرات السياسية التي لا تقف فيها الأمور عند حاجز معين لا يمكن الفكاك منه ..ولا يدرك صاحبه أن شعار السياسة هو حب الحبيب هونا ما وبغض البغيض هونا ما..وأن حليف اليوم لمعطيات معينة قد يكون خصم الغد وفق تغير تلك المعطيات والعكس صحيح ..ووضع حواجز الإسمنت المسلح في الساحة السياسة تصرف مرفوض وسلوك منبوذ...
لهذا المعترض الحق كل الحق في هذا الفهم لكن الانحراف في السياسية والانزياح لا ينبغي أن يجعل بين عشية وضحاها جلاد الأمس جليس وأكيل الضحية اليوم دون أن يعتذر الأول ..ودون أن يأخذ الثاني حقه منه .ولا أن يكون رموز الفساد أمس مقبولون اليوم وهم هم بشحمهم ولحمهم وفكرهم وسلوكهم!!
.على الأقل ..نحتاج نحن –معاشر العامة- إلى تبريرات مقنعة حتى لا ننجر وراء كل سلوك سياسي مهما بدا مثيرا .ونظل نتبارى في التبريرات لمختلف المواقف وإن اختلط تارة حابلها بنابلها.. .وحتى يظل الخيط الأبيض مميزا عن الخيط الأسود ..فأنى للبعض أن يتفهم ذلك الاندغام الفجائي بين الحزب الحاكم بعجره وبجره و"مرابطه و"عربيه "-وإن بواجهة مرضية محدودة المسؤولية- وبين حزب ظلت نفس الوجوه ونفس البيئة تنعته بشتى النعوت السلبية ..وتلهث وراء منعه وصده عن صراط القانون السوي؟؟ من الصعب إقناعنا بأنها شراكة انتخابية تقتضيها أخلاق سياسية جديدة..وإلا فكل التحالفات والتنازلات التي كانت تزكي النظام لا تخلو –عند ذويها ومريديها- من هذه النظرة
فطفل تنبدغة المحظوظ ورجل فرنسا المدلل –على حد وصف السراح وآخر وزير داخلية لنظام ولد الطائع أذاق الإسلاميين الأمرين وأرغى وأزبد تجاههم قدحا واتهاما - هو من يشرف على حملة الطرفين!!!
والمفارقة أن حزب النظام أعاد الثقة في العديد من من كانوا في مراكز "المشيخة" و الذين كانوا واجهة برلمانية قوية للانقلاب ..وجاسوا مشارق الأرض ومغاربها تبريرا له وحجبا للحقيقة الدستورية ...لذلك من الصعب على البعض استيعاب مؤازرتهم للعودة إلى مراكز النفوذ والقرار مع كونهم من أول من التف على الدستور والانتخابات !!!!! فأن يؤتمنون على الوطن ومصالحه العليا؟؟
كما أن التلفزة الوطنية في نشرات الأخبار التي تناولت افتتاح الحملة قدمت تقريرا مفصلا ومصورا عن انطلاق حملة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية وتواصل في حين اكتفت بحديث خاطف عن افتتاح نفس الحملة عن المعارضة دون أدنى تصوير..وبالتأكيد فإن الإخوة في تواصل – وهم من ذاقوا طعم الحرمان زمانا- - يستنكرون هذا التصرف الجائر ..ويأنفون من أن يحظوا بامتياز في الإعلام الرسمي تغبن فيه أطراف سياسة أخرى ..تحت أي عنوان أو عريضة ..