لقد صدمت نواكشوط وأصاب أهلها من الذهول والحيرة والاستغراب ما لو وزع على القارة السمراء لوسعها دون تطفيف أو نقص ...أجل لقد رأوا بأم أعينهم وبين ظهرانيهم ما كانوا يستعيذون بالله منه وهم يسمعون الحديث عنه في الأنباء العالمية هنا أو هناك..
فتى في مقتبل العمر من بني جلدتهم يتكلم بلغتهم ويصلي لقبلتهم يعمد إلى تفجير نفسه ليترك جسده الغض فريسة للبارود والنار..كل ذلك في وضح النهار وبين أهله وذويه وداخل وطنه المسلم المسالم ..يحسبه هينا وهو عند الله عظيم ..مما يستدعي من كل المعنيين ببناء وتعمير هذا البلد أن يشدو الأحزمة ويعدوا أنفسهم لمجابهة هذا التوجه الساعي إلى خراب العمران وذهابه تحت "يافطة" مزركشة بعناوين دينية محرفة عن مواضعها لم يفلح ذووها ولا الواقفون وراءهم والنافخون في روح عدوانيهم في اقتناص دليل مقنع أو برهان من الهدي ملموس ..
وتأتي هذه السطور تمشيا مع هذا التصور الذي يتطلب من الجميع المساهمة والمشاركة ولو بقليل الجهد ..فما أعظم أن ننقذ نفسا بشرية ولو بشطر كلمة وما أفجع وأفظع أن يشارك أي منا في إزهاق نفس بشرية برئية وتحويلها إلى رماد تذروه الرياح بقاع صفصف ولو بشطر كلمة.
إن أعظم جريمة في حق هذا الدين الحنيف أن تستغل قيمه العليا في غير مظانها وأن يتلاعب بعض المغترين بها في غير سياقاتها سعيا وراء الترويع والتخويف ...صحيح أن الشهادة أسمى المطالب التي يتمناها المسلم المؤمن حقا بالغيب ..وصحيح أن الجهاد ماض إلى يوم القيمة نمت الأرض عدلا وأمنا أو ملئت جوراوظلما.
...لكن يجب أن لا تحور هذه المعاني السامية عن سبيلها وأن لا يوجهها أصحاب العواطف الجياشة غير المصانة بالعلم وجهة غير سليمة...وجهة يتقرب قادتها وسلفها بقتل أمير المؤمين علي بن أبي طالب رضي الله ..والتحدي له ومقاتلته ليعترف بكفره ثم يتوب بعد ذلك .موقف يستحل المؤمون به قتل الصالحين وأبناء الصحابة ثم يتورعون من الإيواء إلى ظل شجرة لم يستأذنوا ربها الذمي في ذلك ...إنه تناقض الجهل ...وتخبط الضلال وتخاصم أهل النار..أو كما قال أحد العلماء التابعين لإنهم طلبوا العبادة طلبا أضر بالعلم فخرجوا بسيوفهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن طلب الشهادة ليس في البحث عن الموت في حد ذاته بأي وسيلة ..فما أسهل أن يترك المرء نفسه أشلاء مبعثرة بهذا التأويل أو ذك ..ولن يبخل عليه بعض المتأولين وبعض الجاهلين بتبرير أو تحوير لهذا النص الديني أو ذاك ...لكن ذلك لا يغني من الحق شيئا ...والوسيلة الوحيدة التي تعصم الدم المحرم ...وتشجع على الجهاد في سياقه والشهادة في موطنها هي طلب العلم الشرعي ..والتفقه في الدين ...وتسمية الأشياء بمسمياتها..وتجنب الغلو في الدين والإفراط في حمل النصوص على غير مراميها.
...وأنى يتأتى ذلك لمن يستغل براءة الشباب وعاطفتهم الصادقة ..وشوقهم إلى مرضاة خالقهم سيما أصحاب السوابق ومن عاشوا فترات من الزيغ والضلال ..ثم نشدو ا ضالة الهدى_ورب طالب للحق لن يجده- فتلقفهم "المتنطعون في الدين وحملة الفكر التكفيري ...وحولوا عقولهم إلى شرارة وعواطفهم إلى زناد وأجسادهم إلى بارود...فكانت فاجعة نواكشوط التي يجب محاربتها والسعي إلى تدارك هؤلاء الفتية قبل أن يتحولوا إلى رماد ...ولا شك أن المقاربة الأمنية الصرفة غير كافية رغم ضرورتها وأهميتها..ولن يكون ذلك إلا بالتصدى لهذه الظاهرة بنشر الوسطية وتكثيف الحملات الإعلامية والتوعوية والتوجيهية ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة.
..على الجهات المعنية أن تفهم أن قدر هؤلاء الشباب أن يقعوا في هذا الفخ دون أن يحملوا نيات سيئة لهذا المجتمع وبالتالي فقد يؤوبون إلى الرشاد إن اتضحت لهم بالحجج الدامغة خطورة السير في درب "الغلو والتطرف... وعليها كذلك أن لا تأخذ البريء بجريرة غيره صديقا أو قريبا أو جارا أو.. ..حتى لا تنحرف المعالجة عن مسارها السليم.
.وللعلماء والدعاة وأرباب الفكر والقلم الدور الأبرز في مصارعة ومنازلة أصحاب هذا الفكر المنحرف كي نجنب بلدنا ويلات الشذوذ الفكري والانحراف المنهجي.