ركب رجلان من " الفُلَّان " الموريتانيين جملا للوصول لمكان يريدانه، ومن المعلوم أن هذه المكونة من مكونات مجتمعنا ليست من مربي الإبل ولا تعرف شيئا عن التعامل معها، فهم مختصون في تربية الأبقار والأغنام، ويركبون الثور وهو واقف وينزلون من على ظهره وهو واقف أيضا.. وعندما وصلا إلى حيث يريدان أرادا النزول فأشارا على الجمل فأناخ.. ولأن الجمل ينوخ أو يبرك على مرحلتين
بحيث يثني أرجله الأمامية ويبرك عليها أولا فيتجه جسمه كاملا إلى الأمام، ثم يثني أرجله الخلفية ليتجه جسمه كاملا إلى الخلف، فقد أدت حركته الأولى إلى سقوط الراكب الأمامي فضحك منه الراكب الخلفي، لكن الراكب الأمامي كان متأكدا من أن رديفه سيسقط هو الآخر مع الحركة الثانية للجمل فقال له إضحك " يغير الجَمْلَ بركاتو ثنتين "، وفعلا ما إن برك الجمل إلى الخلف حتى سقط الراكب الخلفي..
دخل حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم في موريتانيا قبل أشهر في عمليات إعادة تفعيل لمؤسساته، بدأت بعملية انتساب على كافة التراب الوطني، ثم عمليات تنصيب وحدات وأقسام وفروع واتحاديات محلية وجهوية، ولا نحتاج إلى القول هنا إن عمليات الانتساب هذه، ثم تشكيل الوحدات والفروع والأقسام والاتحاديات اختلطت فيها الغايات والأهداف، فمن منتسب لحزب يعتبره حزبا حاكما وإطارا للحكم وتنفيذ سياسات الدولة في جوانبها التنموية والإجتماعية، إلى منتسب كنوع من رد الجميل لرئيس الجمهورية كون الحزب واجهة سياسية لهذا الحكم تثمينا لإنجازاته وتطلعا للمزيد منها، إلى منتسب عينه على مصالحه ومكانته ونفوذه، إلى منتسب آخر عينه على المراحل اللاحقة لعملية الانتساب وهي الترشيحات للمناصب الانتخابية المحلية والجهوية.. وبالطبع فإن لكل عملية سياسية محركون هم من يهتمون بها ويعبئون لها غير المهتمين سياسيا.
وقد بقيت عمليات إعادة تفعيل هيئات الحزب سائرة بشكل اعتيادي حتى وصولها إلى نهايتها دون مشاكل بارزة، إلى أن جاءت المرحلة الحاسمة و ( بيت القصيد ) بالنسبة لغالبية المنتسبين، أي مرحلة الترشيحات واختيار المرشحين، ولا أعتقد أن هناك من كان يتوقع، بمن في ذلك قادة الحزب ومنتسبوه، أن يختار الحزب مرشحيه دون أن تكون لذلك تبعات وردات فعل من قبيل ما أصبح يعرف بظاهرة المغاضبين، وذلك نظرا لاتساع دائرة الطامحين للترشيح مقابل محدودية المناصب الانتخابية ورؤوس اللوائح أساسا التي هي حلبة التنافس، والتي لا تتعدى في مجموعها 380 مرشحا على رأس كل لائحة ما بين نواب وعمد ورؤساء مجالس جهوية مقابل عشرات آلاف الطامحين للترشيح!
وما كان الأمر سيتغير كثيرا لو كان الحزب ألغى ترشيحاته الأولى وأحل المغاضبين محل المرشحين ترضية لهم حيث كانت ستنقلب الآية، فيتحول المغاضبون إلى منسجمين راضين والمرشحون السابقون إلى مغاضبين، ولكانت عملية اختيار المرشحين مثل عملية " أجهيرت أهل التحت " التي يقال إنهم ما إن ينتهوا منها حتى يبدؤوها من جديد.. هذا بالطبع دون إغفال لدور اللجنة المكلفة بالترشيحات التي لم تصمد أحيانا أمام نزوات بعض أطرافها، وضغوط النافذين في الساحات التي كانت تعمل فيها لفرز المرشحين، وحادت أحيانا عن المعايير التي وضعها الحزب للترشيح، تلك المعايير السهل وضعها على الورق، الصعب والمعقد تطبيقها على واقع وخصوصية الساحات في مجتمع تقليدي لا زالت تطبعه الحميات القبلية والحساسيات المحلية أكثر بكثير من روابط الأحزاب أي أحزاب..
ولذلك فإن ما حصل مع حزب الاتحاد و " ضحكت " منه أحزاب أخرى، ما إن أصبحت تلك الأحزاب على المحك وباشرت إعلان ترشيحاتها للانتخابات حتى تبين أنها هي الأخرى ليست في حصن من هذه الظاهرة التي تغذيها الأطماع الشخصية بعيدا عن الالتزام والانضباط الحزبيين، وإن كانت هذه الأحزاب أكثر حرصا من غيرها على منع خروج أخبار مغاضبة مغاضبيها وانشقاق منتسبيها إلى العلن حرصا منها على مظهرها كأحزاب تقول إنها تختلف عن حزب تصمه بأنه حزب " طامعين وخائفين ".. والأكيد أن المغاضبات بين منتسبي هذه الأحزاب كانت أكبر مما أعلن عنه وانسحب أصحابه، فكانت هناك مغاضبات وامتعاض بقي في الكواليس وتم احتواؤه بطريقة أو بأخرى.
فشهدت كل أحزاب المعارضة كالتكل، وتواصل، واتحاد قوى التقدم، والوئام، والتحالف الشعبي مغاضبات وانشقاقات وانسحابات، وإن كان تلك المغاضبات أقل حجما وزخما من المغاضبات في الحزب الحاكم قياسا على أنه هو الأكبر والأحزاب الأخرى تأتي بعده من حيث الانتشار، كما كان لأحزاب الأغلبية دور في توفر خيار آخر لمغاضبي الحزب الحاكم يقدمون من خلالها ترشيحاتهم باعتبارها أحزابا مساندة للرئيس وقريبة منه سياسيا مما جعل زخم المغاضبة له يعلو، بعكس مغاضبي أحزب المعارضة الذين لا يستطيعون الترشح عن طريق الحزب الحاكم ولا أحزاب الأغلبية خوفا من " الشماتة "، ولا يستطيعون كذلك الترشح عن طريق أحد أحزاب المعارضة الأخرى لأن ذلك سيعتبره كل حزب معارض طعنا له في الظهر و خيانة له من حليف..!
وهذا يعكس هشاشة الانضباط الحزبي لدينا، ولا اختلافا جوهريا في ذلك بين حزب حاكم أو حزب أغلبية أو حزب معارض، فتظل الأحزاب السياسية منسجمة متماسكة ظاهريا في المواسم العادية، لكن ما إن تطل مناسبة انتخابية حتى تبرز الطموحات الشخصية والقفز على الروابط الحزبية، ومن هنا لن نجد صعوبة في فهم وتفهم دور وموقف رئيس الجمهورية في أخذ زمام المبادرة وعدم ترك تسويق مشروعه ورؤيته وبرنامجه لحزب تطبع أطره الصراعات، لا مع القوى السياسية الأخرى على برنامجه، وإنما مع قواه هو نفسه التي هي قوى لا يريد الكثير منها من الحزب سوى مطية أو سلما لصعود مناصب إدارية أو انتخابية ما لم توصله إليها يصبح وكأنه لم ينتم له يوما. ولا أعتقد أن هناك من يستغرب، أو يتفاجأ من هذه الهشاشة السياسية في مجتمع لا يزال هشا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، والروابط التقليدية هي ما لا يزال يحدد وينسج علاقته وانتظامه فكيف لا يكون كذلك هشا سياسيا؟!
نعم، لرئيس الجمهورية برنامج ومشروع نهضوي كبير كان من سوء الحظ، بالنظر إلى الهشاشة السياسية التي تحدثنا عنها، أن لا يكون الجهاز السياسي المنوط به تسويق ومواكبة ذلك البرنامج صالحا للقيام بتلك المهمة أو قادرا على التكفل بها بالشكل المطلوب والمتماشي مع حجم مكتسبات هذا البرنامج واستشراف آفاقه الواعدة انطلاقا من تلك المكتسبات، بدل الانشغال عن ذلك بالأطماع والطموحات الشخصية، والعيب هنا قد لا يكون كله في الحزب الحاكم كإطار وإنما في المنظومة الإجتماعية المتحركة الأهواء والطموحات تحرك رمال صحرائها.. فلن يكون الحزب، أي حزب، إلا انعكاسا للمنظومة المجتمعية التي يتشكل منها ويعمل في أوساطها.
فلو أنصف الدهر لما احتاج رئيس الجمهورية للعودة ثانية لتلك الساحات وتلك الطبقات التي تردد عليها سابقا في عز الصيف في مناطقها وقراها وأريافها ومدنها العطشاء المعزولة المظلمة والمنسية، وأحيائها العشوائية المهملة محاولا بذلك ربط الصلات بها بشكل مباشر، لا عبر من ظلوا يتحدثون باسمها ويتكسبون على حساب معاناتها، فتحقق لها ما تحقق من أولويات عيش تمثل في فك عزلة وماء شروب وصحة وتمدرس وبرامج اجتماعية متعددة، فلو أنصف الدهر وكان الدعم السياسي للبرامج والإنجازات وليس للزعامات التقليدية، لدعمت هذه الطبقات من ستدعمه سياسيا انطلاقا مما تحقق لها في مناطقها لا انطلاقا من تبعيتها لقادتها الاجتماعيين الذين وإن كانوا منخرطين في الحزب ومتظاهرين بدعم الرئيس وبرنامجه وسياساته، إلا أنهم لا ينطلقون في ذلك مما تحقق لمجتمعاتهم المحلية وإنما من مكاسب شخصية وامتيازات إن أعطوا منها رضوا ودعموا وجروا معهم مجتمعاتهم في ذلك الرضى والدعم، وإن لم يُعطوا سخطوا وغاضبوا وسحبوا معهم أيضا مجتمعاتهم المحلية في ذلك السخط وتلك المغاضبة..!
والحالة هذه إذن لن يترك رئيس الجمهورية برنامجه وما حققه عرضة لهذا التلاعب الشخصي المنفعي الضيق الآني، وسيتولى الأمر بنفسه دفاعا عن برنامجه وتسويقا وتذكيرا بإنجازاته، وحيلولة بين هذه الطبقات وبين مصطادي المواسم الانتخابية من أصحاب الطموحات الشخصية الذين لا يجدون حرجا في أن يكونوا بالأمس داعمين وحزبيين ومثمنين لما تحقق لمناطقهم، واليوم مغاضبين معرضين لا لأن ما تحقق لهم في مناطقهم تم نسفه أو حرقه، أو لأنهم لا يرون آفاقا للمزيد، وإنما لأنهم ينظرون ويُقيمون ويتحركون من زاويا المربعات الضيقة لأسرهم وذواتهم، ولن يضع الرئيس قدمه في منطقة من مناطق البلاد خلال جولة الدفاع عن برنامجه هذه، إلا وكان هناك من إنجازاته في أولويات الناس وطرق عيشهم ما يقف عليه ويقول للمستهدفين به : هذا لم يكن موجودا قبلي.. بالإضافة طبعا إلى منجز وطني آخر كبير، بل وعظيم هو منجز الأمن والاستقرار الذي هو رأس مال عالم اليوم وعملته النادرة، والذي يعيشه الناس ويتمنون دوامه لكنهم لا يقدرون الجهود الكبيرة التي بُذلت في تجسيده والظروف السياسية اللازمة لحمايته وتعزيزه، ولا يدركون أيضا حساسية هذا المنجز في بلدنا وغيره من بلدان العالم الثالث للهزات السياسية الناجمة عن عدم يقظة أو سوء تقدير.. ولن يترك الرئيس أمر استثمار وتسويق هذا الرصيد للمنشغلين عن ذلك بالجزئيات والأنانيات.
والحقيقة أننا لا ندري من أين جاء فقهاء دستورنا بهذه الصيغة الدستورية التي تجعل رئيسا يحكم بحزب لا سلطان له عليه وليس له فيه أي دور، وهي في اعتقادي صيغة لا تختلف عن الكثير من الصيغ والمواد الدستورية المتقدمة كثيرا عل واقعنا وخصوصيتنا والتي صاغها قانونيونا ضمن طريقة " النسخ واللصق " التي اتبعوها في وضع دستورنا، فهي لا تختلف مثلا عن كمالية وترف دسترة غرفة لمجلس الشيوخ في بلد قليل السكان كثير الأولويات مبتدئا في الممارسة الديمقراطية..! والغريب أن الكثير من الدساتير العريق منها والحديث لا تمنع أضطلاع الرئيس بأدوار في حزبه إلى حد القيادة والمرجعية في اتخاذ القرارات أحيانا.. فما معنى أن يكون حاكما بحزب حياديا بينه وغيره من الأحزاب بما في ذلك المتحالفة معه والداعمة له..؟!
هناك أيضا مغالطة واستغلال غير بريء لكلام الرئيس في مدينة النعمة وجب التوقف عندهما وتوضيحهما، وذلك بأن الرئيس هاجم أحزاب الأغلبية وتوعدها واعتبرها ليست شريكة له في الحكم من خلال دعمها ومساندتها لبرنامجه، ووظف الخصوم هذه المغالطة في حملاتهم الانتخابية بالقول إن الرئيس أو النظام هو اليوم في مواجهة المعارضة والموالاة معا..! في حين أن الرئيس لم يهاجم أحزاب الأغلبية الداعمة له ولم يتوعدها، فهي أحزاب أغلبية لها قادتها وبرامجها وقد شاركت في هذه الانتخابات ورشحت مرشحيها من مناضليها استخداما لحقها في المشاركة وتحقيق المكاسب السياسية كغيرها من الأحزاب بما في ذلك الحزب الحاكم نفسه، أما الذين توعدهم الرئيس، أو حذرهم على الأصح، فهم أولئك الذين كانوا إلى يوم إعلان الحزب الحاكم لترشيحاته منتمين له وناشطين فيه، وبسرعة البرق انتقلوا منه وترشحوا من أحزاب أخرى معتبرين أنهم داعمون للرئيس، بينما الأولى بالمنتمين للحزب الحاكم الداعمين للرئيس دعمه من خلال دعم الحزب بدل الانتصار لذواتهم والترشح من حزب آخر حتى ولو كان داعما ومواليا.
وهؤلاء إذا حق بأن الرئيس توعدهم، فإنه لم يتوعدهم لا بالغرامة ولا بالسجن، وإنما وضعهم أمام مسؤولياتهم السياسية بأن لا يلعبوا على حبلين، أو يطاردوا أرنبين في وقت واحد.. فيُضعفوا الحزب الحاكم من باب الترشح ضده وشتيت قواعده، ويظهروا غدا من نافذة المنتمين له الداعمين للنظام والرئيس! فهذا لم تكن لتقبله أحزاب المعارضة التي تلعب الآن عليه وتوظفه في زرع الشكوك بين الرئيس وأحزاب أغلبيته لو كانت تعرضت لنفس الموقف وترشح بعض مناضليها ضدها من أحزاب أخرى حليفة لها، ولا نعتقد أيضا أن أحزاب الأغلبية فهمت كلام الرئيس هذا الفهم التحريفي بدليل أن لا حزبا واحدا منها خاض في الموضوع أو اعتبره مهاجمة له أو حملة ضده، لأنها تدرك أن علاقتها بالرئيس هي علاقة شراكة سياسية، وأن ليس من حقها أن تنتقد على الرئيس جعل الأولوية عنده لدعم الحزب الذي يحكم به مثلما أن الأولوية عندها هي دعم أحزابها التي تقود حملاتها وتسعى في فوزها!
محمدو ولد البخاري عابدين 36224642