بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله
كنت قد كتبت منذ خمس سنوات، عُجالةَ راكبٍ عن الحملات الانتخابية، والدخول فى الديموقراطية، ونشرتُها على الملإ، وتداولها الناس ــ لله الحمد ــ فى مواطنَ كثيرةٍ ، وذاعت بينهم على نطاق واسع، وانتشرت فى المجالس والمجامع، وقُرئت على المنابر والمواقع.
ثم رأيت، بعد انقضاء الحملة التى كُتبت لأصحابها تلك الرسالةُ الصغرى، أن أكتب لعموم المسلمين رسالة جديدة مطولة أورِد فيها مزيدا من الأدلة الشرعية والنقول العلمية، لِمَا اتَّسَمت به تلك العُجالة من إيجاز واختصار، فشرَعْتُ بعد أيام من كتابة الرسالة الأولى فى جمع مادة الرسالة المفصلة الجديدة.
لكنْ حدث خلل فى الجهاز، اختلطت إثرَه الكلمات، وامتزجت الجُمَل والسطور، فاضطرِرت إلى نسخها من جديد، وإعادة النظر فيها.
وبالرغم من مرور أكثرَ من أربع سنوات على تأليف الرسالتين المذكورتين، فإنه لم يتسنّ لى طبع أىّ منهما، لكثرة الصوارف والأشغال، لله الحمد.
ونظرا لأجواء الحملة القائمة الآن (1439هـ ـــ 2018م)، فإنه لا مندوحة عن نشر مقاطعَ من تَيْنِكُمُ الرسالتين تبْصرةً وذِكرى، وإبراء للذمّة كَرّة أخرى.
وما هاتان الرسالتان وما ينحو مَنْحاتَهما مما نكتبه توجيها ونُصحا إلا جزءٌ يسير من أداء بعض ما يجب من الإرشاد، والبلاغ، وبيان الحق، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، قدرَ الطاقة والإمكان، محبة للمسلمين، وإشفاقا عليهم من عذاب الله.
ولا نكلَّف أكثر من ذلك، إذ ليس لآحاد الناس تغيير المناكر العامة باليد والقوة، وإنما ذلك إلى السلطان الذى مكّن الله له فى الأرض، قال تعلى: ((الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وءاتَوُا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوْا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)).
ولو وُكل إلى آحاد الناس تغيير المناكر العامة باليد، لأفضى ذلك إلى الفتن الداخلية والحروب الأهلية، وصار أمر الناس إلى الفوضى والاقتتال. والعياذُ بالله.
ثم إن ما أكتبه من إنكار لهذه المعاصى الواضحة ليس موجها إلى أحد بعينه، ولا إلى جهة محددة، أو حزب معين، وإنما هو إنكار للمنكر، كما أمر الله تعلى، وانتقاد صريح لكل مظهر يخالف الشرع. وهكذا كل ما أكتبه من إنكار للبدع والمحدثات والمعاصى والشرك والإلحاد، إلا أن تدعو الحاجة أو الضرورة إلى التعيين.
وقد تأخرتُ فى الإدلاء برأيى هذه المرة، تعويلا على الكتابة السابقة التى ألمعت إلى انتشارها وذيوعها أعلاه.وبالله التوفيق.
ـــ المقطع الأول:
"...لاشك أن كل ما ذكرناه من تشبه بالرجال, وتبرُّج وتكشُّف، وخلوة واختلاط, ومزاحمة للرجال بالمناكب, ومنافسة فى المراتب و المناصب, وخبيث المكاسب ... معدودٌ فى ملة الإسلام من المآثم الغليظة والقبائح الشنيعة بالنصّ والإجماع.
فإذا انضمّ إلى هذه المنكرات تبذيرُ الأموال الطائلة فى الوجوه المحرمة أثناء الحملات الانتخابية، والإسرافُ فى المآكل والمطاعم والمشارب - على عادة أهل هذه البلاد فى الأعراس، "وأفراح" الموت, وولائم العقيقة - والضربُ بالمعازف وآلاتِ الطربِ، واجتماعُ الرجال والنساء تحت الأضواء على الأغانى المحرمة فى السهرات الفنية الراقصة، وكلٌّ قد خرج فى زينته، والمبالغةُ فى رفع الأصوات بتلك الأغانى الهابطة، والأهازيج الساقطة, والنعيقُ بأسماء المرشحين والمرشحات إلى الفجر، ومنعُ المؤمنين من الاستغفار بالأسحار، والتشويشُ على المصلّين فى المساجد، والإزعاجُ بالضجيج والصخَب, والضوضاءِ والجَلَبة واللجَب، وتكبيرُ صور المرشحين والمرشحات، ورفعُها على اللافتات، دعاية وتعظيما لأصحابها، ونَبْزُ المخالِفين بكل سوء، وخداعُ العامة, واستمالتُهم بالرشاوى والوعود المعسولة، وشهادةُ الزور، وقولُ الزور، وفعلُ الزور، ونصبُ الخيام لاجتماع الفساق وأهل الغفلة والمجون، والانشغالُ عن الصلاة والذكر، وإثارةُ الأحقاد والإِحَن، مما يوقع العداوة والبغضاء، ويُوغِر الصدور، ويوقظ الفتن النائمة، ويقطِّع الأرحام...
إلى غير ذلك من صنوف الكذب، والغيبة، والنميمة، والقذف، والخوضِ مع الخائضين, فى جميع صنوف الباطل، والتمادى فى ذلك الليالىَ ذواتِ العدد ـــ فعلَ من أمنوا مكرَ الله ـــ كان ذلك كلُّه ضِغثا على إبَّالة، وضمَّ جرائمَ وموبِقاتٍ، إلى نظائرَ لها من قبائحَ ومنكَراتٍ.
وكل أحد يعلم أن المجموعاتِ تتعاون بكل سخاء فى هذه الحملات الشيطانية بدفع المبالغ الباهظة، بينما تتَوانَى ــ فى الغالب ـــ عن نوائب الحق، فلا تعين فيها، ولا تتحمس لها، ولا تكاد تجتمع من أجلها، كقضاء ديون الأموات، وعلاج المرضى، وتخليص السجناء، ودعم المشروعات العلمية والأعمال الخيرية...
وترى الواحد منهم إذا دُعى إلى الإسهام فى بعض هذه الجوانب، تلَكَّأ، وادَّعى الإفلاس, وأنه حلّت به كل أزمات الدنيا وجميعُ قوارع الدهر، وأن العالَم فى ضائقة اقتصادية لم يسبق لها مثيل...". اهـ من الرسالة الصغرى.
المقطع الثانى:
"...وقريبٌ من المظاهر الشيطانية التى نراها فى الحملات ما جاء فى إحدى الفتاوى المضمَّنة فى معيار أبى العباس أحمد بن يحيى الونشريسىّ من سردٍ لجملة من المنكرات الشائعة. فبعد الحديث عن السُّكارى وإضرارهم بالناس فى الشوارع والمحلات، جاء ما نصه:
"وكذلك غيرُهم من أصناف الفسّاق والمجاهرين بأنواع المناكر، كاسترسال النساء حالتى السرور والحزن فى الإعلان بأنواع الملاهى البادية، وإظهارها على الأصوات العالية فى إسراف، تتمادى على تلك الحال من موضع إلى موضع يتعارفْنه بينهنّ بالزحف، وربما ضربن عليه بالطبل، وبالدف والمِزْهَر، ويخرجن فى الأزِقة عاليات الأصوات، باديات الوجوه. وربما اجتمع إليهنّ الرجال للنظر والتعرض ونحو ذلك". اهـ
لكن جاء فى هذه الفتوى المالكية وجوبُ القبضِ على مَن هذه حالُهم، والمبالغةِ فى عقوبتهم!
وقريب من هذه المظاهر أيضا ما ذكره أبو محمد عبد الله بن الحاج المالكىّ فى "مَدخله" فى الكلام على خروج النساء، فليطالعه من شاء، فبيْنه وبين ما نحن فيه مَشابِهُ شَتَّى: (1/267 وما بعدها).
ونحن نسأل كل من يقيم للإسلام وزْنا ببلدنا هذا، عن الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع القطعىّ المتيقَّن، التى تسَوّغ هذه الحملات وما يصاحبها ــــ ضرورةً ــــ من القبائح والمنكَرات؟ ونسألهم ما الجواب عنها يوم الحساب؟
فإن أعياهم الدليل من هذه الثلاثة، فليُرشدونا إلى ما يسوِّغها من أقوال الشيخ أبى الحسن الأشعرىّ علىِّ بن إسماعيل بنِ أبى بشر البصرىّ البغدادىّ ـــــ فى مذهبه الأوسط ـــــ أو إمام دار الهجرة أبى عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبى عامر الحميرىّ الأصبحىّ، أو أبى القاسم الخزاز الجنيد بن محمد القواريرىّ البغدادىّ الذين يتبجحون بتقليدهم فى الأصول والفروع والسلوك.
فإن لم يجدوا ــ ولن يجدوا ــ عُلم أنه لا مصدر لها إلا اتباعُ الهوى وخُطْواتِ الشيطان، وتقليدُ الكفار. ونكون بذلك قد فرَّطنا ـ للأسف ـ أسبوعين كاملين
"فى عَقد الَاشعرىْ وفقـــــــــــــــــه مالكْ/ وفى طريقة الجنيد السالكْ"!
ونكون بذلك أيضا قد فتحنا الباب على مصراعَيْه لكل من أراد الخروج عن هذه المنظومة الثلاثية التى تشكّل جملةَ "موروثنا الدينىّ المقدس"، سواء خرج منها إلى قرآن صريح، أو حديث صحيح ، أو منكر قبيح!
وبعبارة أخرى، نكون قد أقمنا الحجة على أنفسنا لكل من أراد مناهضة "ثوابت البلد"، ومناقضةَ "تراثه الدينىّ، و"مرجعيته التقليدية" إلى الوجهة التى تحلو له من خير أو شرّ!
بل إنه سيكون سائغا ــ حسب هذا المنطق ــ أن يأتى الناسُ علانيَة، فى المستقبل القريب، ما هو أقبح من هذه المظاهر الموصوفة، لأنهم لم يروا مستنكِرا، ولا رادعا، فلا تلبَث أن تُتخَذَ أنموذَجا يُحتذى، وسبيلا تتبع، ثم تُتَجاوَزَ إلى ما هو أشنعُ وأبشع!
والذى يُفزعنى حقيقةً، وأوْجَلُ من عواقبه الوخيمة على أمّتنا، هو أن كثيرا من أهل بلدنا ينكرون أشدّ الإنكار على من خرج عن تلك المنظومة الثلاثية، فى بعض المسائل، إلى القرآن الصريح، أو الحديث الصحيح، وينبزونه بأبشع الألقاب عندهم، ويتركون النكير على من خرج عنها إلى الكفر أو الفسوق والعصيان، باسم الحرية الشخصية، وتعدد الآراء، والديموقراطية، والانفتاح !!!
وإِخالُ مالكا والأشعرىَّ والجنيدَ ــ رحمهم الله ــ لو بُعثوا فى أيّة ساعة من ليل أو نهار إبّان الحملة ــ وخصوصا منتصفَ ليلة الجمعة، لحظةَ الانطلاق ــ ورأوا ما فيه أمَّتُنا إلى وقت السحر من تلك الليلة الزهراء، على طول أَدِيمِنا المديد غربا وشرقا وجنوبا وشمالا، من تراقُص وتواجُد وطرَب، واهتزاز واضطِّراب وصخَب، وجَلَبَة وهِيَاط ومِيَاط، ولعب وعِيَاط وزِيَاط، وتدافع وازدحام واختلاط، ورأوا الفتَياتِ والقَيْناتِ والشبانَ والمخنّثين قد ملأوا الخيام والطرقات، والمتفرجين والمُجَّانَ قد غصَّت بهم الأرصفة والساحات، لأوشك أن يصنفوها من أهل الفترة، أو يحكموا عليها بالردة الجماعية، أو بالجنون المطبق!
صحيح أن مالكا والأشعرىّ والجنيد لا يكفرون بارتكاب الكبيرة، وهو قول عامة أهل السنة من قبلُ ومن بعدُ، فلا يقولون إن صاحبها فى منزلة بين المنزلتين، كما تقول المعتزلة، ولا يكفرونه، ويخلّدونه فى النار، كما تقول الخوارج، ولا يهوّنون من شأن المعصية، كما تفعل المرجئة الذين لا تَضرّ عندهم مع الإيمان معصية.
ولكن قد تكون تلك الأحكام القاسية صدرت منهم تحت هول الصدمة، أو حسِبوا أتباعهم مستحِلّين، أو بدَرت منهم على وجه الزجر و التغليظ.
ومما يشهد للاحتمال الأول ما ثبت فى لفظ مسلم من قول صاحب الراحلة فى حديث التوبة المشهور:" اللهم أنت عبدى، وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح". وهو حديث متفق عليه.
ولقد كنت أسمع قديما أن المجتمع يخرج عن طبيعته، ويتعدى طوره وحدودَه، ويكْسِر طَوق المروءة والأخلاق أيام العُرس والبناء. وكأنّ تلك الجاهلية البدوية الساذَجة قد انحسر مدُّها منذ زمان، ولكنْ هاهى ذى تعود جذَعة منذ سنين فى شكل الحملات، وأعراس المترَفين ومن "يتقمص" حياتَهم من فقراء المدن والقرى .
بيد أنه مما يخفف من لواعج أحزاننا، أن جميع من فرَط من علماء الأمة لم يبيحوا قط شيئا من هذه المنكرات، وأن خلقا من العامّة والدهماء، ممن فيهم بقيةٌ من خُلق وفطرة، يستنكرون الآن هذه الموبِقات، وينطقون بحُرمتها، ويستغربون سكوت الساكتين من الفقهاء، و خوضَ الخائضين فى حمْأتها من الفضلاء!
فيا قومنا بالله عليكم، من أين أخذتم إباحة هذه الحملات؟
(منْ أىّ قرآنٍ أمَ اَيّة سنَّـة/ أمْ أىِّ إجماعٍ من العُلمــــــــــاء)؟
تالله لا يوجد اليوم، على أديم الأرض، مِن أهل العلم والخشية، مَن يستطيع أن يبيح شيئا من هذه المخالفات، فضلا عن إباحتها جميعا. والله على ما نقول وكيلٌ". (وما علينا إلا البلاغ المبين). ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
اهـ من الرسالة الكبرى.