سنحاول عبر المقال الحالي توضيح وجهة نظرنا حول ضرورة إنضاج تجربتنا الديمقراطية بما فيه الكفاية قبل الحديث عن مراحل متقدمة من الديمقراطية لم نصلها بعد، و العقبات التي تعترض هذه التجربة مع تقديم بعض الحلول التي نعتقد أنها قد تساهم إيجابا في تطوير التعددية الحزبية في بلدنا.
فبخصوص إنضاج التجربة الديمقراطية، يتطلب الأمر،
على المستوى الفردي و الجماعي، انتشار الوعي المدني و الفكري و التربوي أفقيا و عموديا ليتحول بعد ذلك إلى وعي سياسي متبصر. إلا أن ذلك مشروط بتحصيل الفرد لمستوى دراسي و معرفي يمكنه من أن يبني تصوراته عن الحياة بشكل عام و النشاط الاجتماعي السياسي بشكل خاص على أسس وجيهة تجعله قادرا على اتخاذ مواقف تؤثر عليه كفرد و على المجموعة الوطنية التي ينتمي إليها. من المهم كذلك التنبيه إلى أن الديمقراطية التعددية ترتكز قبل شيء على الموقف السياسي للفرد الحر و ليس على المجموعات، كما هو الحال عندنا، سواء كانت تلك المجموعات قبائل أو فئات ذات وظيفة اجتماعية محددة بمعايير البنية الاجتماعية التقليدية، أو إثنيات، إلخ.
فما يميز ديمقراطيتنا الناشئة هو أن سلوكنا السياسي يختلف جذريا عما يوجد في الدول التي قطعت فيها الديمقراطية أشواطا بعيدة و أثبتت نجاعتها كنظام حكم يحترمه الجميع و يحتكمون إليه. فنسبة الأمية المرتفعة في أوساطنا و ضعف المستوى التعليمي و هيمنة التقاليد الاجتماعية المتحجرة و طبيعتنا البدوية التي تنفر من الانضباط و النظام، و ضعف الطبقة المتوسطة، و الوضعية الاقتصادية و المعيشية الهشة لطيف عريض من ساكنة البلد، رغم ما تقوم به الجهات الرسمية من جهود للحد من هذه الوضعية، كلها عوامل مُقَاوِمَة لخلق عقلية تسمح بتطوير الديمقراطية. و الأهم من ذلك أن التشكيلات السياسية، بوصفها مدرسة للديمقراطية، لم تقم بدورها كما ينبغي لتنشئة الناس على الممارسة الديمقراطية السليمة داخل هيئاتها، حيث لا تنظم انتخابات دورية داخل هذه الهيئات للتبادل على المناصب داخلها، أو حتى تنظيم حوار جدي حول هذا الموضوع؛ و إن حدث ذلك فهو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. فمن النادر أن ينتقد منتسبو حزب ما قيادته أو يطالبونها بإدخال إصلاحات جوهرية داخل مؤسسات الحزب، أو مساءلتها عن أخطاء ارتكبتها، سواء كان ذلك داخل فسطاط المعارضة أو في الطيف الموالي. ثم إن القوانين المنظمة للأحزاب لم يتم تحيينها و تحسينها بحيث تفرض ضوابط موضوعية و تأخذ بعين الاعتبار واقعنا الاجتماعي الثقافي للاعتراف بهذه الأحزاب بحيث لا تتحول إلى تشكيلات تتلون بلون الأطياف الاجتماعية التقليدية.
فلو تحقق ذلك لما كنا في الوضعية التي نوجد فيها، حيث أزيد من مائة حزب سياسي، لا شيء جوهري يميزها عن غيرها، و هذا الوضع سيربك ـ لا محالة ـ عملية التنظيم الفني لاقتراع الأول من سبتمبر المقبل.
كذلك لا تزال العديد من الممارسات التي تسببت فيها الأنظمة المتعاقبة من فساد و محسوبية و زبونية تقف حجر عثرة أمام بعض مؤسسات الدولة الرئيسية التي تحتاج إلى إصلاح مستمر يرمي إلى مراجعة نصوصها القانونية و التنظيمية حتى تكون قادرة على مسايرة العملية الديمقراطية بفعالية.
فأمام هذه الوضعية، ما هي السبل التي من شأنها "إنضاج تجربتنا الديمقراطية" ؟
الحقيقة أنه للإجابة على هذا السؤال، لا بد من بذل جهود مضنية من طرف كل مكونات الطيف السياسي الوطني، موالاة و معارضة، و ذلك لتعديل القانون المنشئ للأحزاب، بحيث يستجيب لما يلي:
ـ القضاء على منصب رئيس الحزب و الاكتفاء بمنصب أمين عام يتولى إدارة الحزب و يكون منتخبا من قبل هيئاته؛
ـ أن لا تتجاوز مأمورية الأمين العام للحزب سنتين قابلتين للتجديد مرة واحدة؛
ـ إنشاء لائحة حزبية وطنية تسند مهمتها إما إلى اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات أو إلى إحدى مديريات وزارة الداخلية، بحيث تنظم لائحة المنتسبين لكل حزب بعد إجراء عملية انتساب شفافة و خالية من التلاعب داخل كل حزب، مع تحديد سقف منطقي موحد، بحسب ما هو متعارف عليه في الديمقراطيات العتيدة، لعدد منتسبي حزب معين، بحيث لا يتجاوزون، كحد أقصى، 2 % من إجمالي عدد المسجلين على آخر لائحة انتخابية تم إقرارها من قبل اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات. تتوج عملية الانتساب هذه بمنح كل منتسب بطاقة انتساب غير قابلة للتزوير أو المحاكاة هي التي من خلالها يمكن لمنتسبي أي حزب عقد مؤتمر عام و انتخاب هيئاته، إضافة إلى اعتماد الإجراءات الإدارية و القانونية المنظمة لانتقال شخص من حزب إلى آخر.
ـ فرض ضوابط و رقابة صارمة على تمويل الأحزاب تقوم بها هيئة يتم الاتفاق عليها بين مختلف مكونات الطيف السياسي الوطني و الحكومة؛
ـ إلزام أي حزب بأن يكون أعضاء مجلسه الوطني و مكتبه التنفيذي و جميع هيئاته الأخرى موزعين بشكل متوازن و متناسب بين مختلف الولايات حسب التعداد الديمغرافي لكل ولاية؛
ـ إلزام كل حزب بأن لا يكون من ضمن المكتب التنفيذي أو المجلس الوطني أو أي هيئة قيادية أخرى من تشكيلته أي من أقارب أو قبيلة الأمين العام أو من حاضنته الاجتماعية أو من أي من بلديات المقاطعة التي ينحدر منها، و ذلك طيلة فترة مأمورية هذا الأخير؛
ـ رفع النسبة التي يجب أن يحصل عليها أي حزب في اقتراعين متتاليين إلى 2 % من المسجلين على اللائحة الانتخابية تحت طائلة الحل بقوة القانون؛
ـ أن يخضع أي شخص أو مجموعة أشخاص يتقدمون للمطالبة بترخيص حزب سياسي إلى تقييم لمستواهم التعليمي و الثقافي و الأخلاقي و سوابقهم العدلية من قبل المصالح المختصة في وزارة الداخلية وفق معايير يتم الاتفاق عليها بين السياسيين و بمشاركة مفكرين و مثقفين وطنيين و إعلاميين، إضافة إلى ممثلين عن المجتمع المدني و النقابات. كما يلزم المطالبون بإنشاء حزب سياسي بتقديم عريضة موقعة باسم ألف (1000) شخص على الأقل مسجلين على اللائحة الانتخابية يدعمون مشروعهم السياسي و موزعين بشكل متوازن بين مختلف ولايات الوطن، مع ذكر أسمائهم الكاملة و أرقام هوياتهم و أن يكونوا غير منتسبين لأي حزب منذ سنة على الأقل؛
ـ تفعيل القوانين التي تردع أي دعاية قبلية أو عرقية أو عنصرية أو جهوية و تطبيقها بصرامة.
فعند ما نقوم بإعادة تنظيم الحياة الحزبية في بلدنا على أسس سليمة و عند ما يتم التبادل على المناصب الحزبية بشكل سلس و عند ما ننجح في تحيين و تحسين و تطبيق القوانين و النظم التي تحكم المؤسسات الرئيسية للدولة، عندها يصبح الحديث عن التبادل السلمي على السلطة، أي سلطة، في محله، أما قبل حدوث ذلك فإننا سنبقى في تناقض صارخ و سوريالي.
و في انتظار أن تكتمل الشروط الموضوعية لحياة ديمقراطية حقيقية، أي ديمقراطية تبدأ بدمقرطة الأحزاب نفسها بقوة القانون و خلق جيل من السياسيين و المواطنين يفهمون مضامين الديمقراطية و يطبقونها و يناضلون من أجل تحقيقها، تبقى الأولوية الآن، و في هذه الظرفية السياسية الخاصة و الدقيقة من تاريخنا، هي المحافظة على الدولة و ديمومتها، قبل أي مطلب طوباوي لم نعمل بعد بشكل جاد على تجسيده على أرض الواقع.
في الختام، على الجميع أن يتأمل مَلِيًّا الحكمة القائلة: "حفظ الموجود أولى من طلب المفقود".