منذ مجيء الجنرال محمد ولد عبد العزيز إلى السلطة بدأت ملامح مرحلة جديدة من تاريخ موريتانيا ترتسم طبعتها انقلابات كثيرة على جملة مما كان يسمى "الثوابت"، ولعل محاولته الفاشلة لتغيير وجه انواكشوط كانت تخفي وراءها رغبة متقدة في الإقامة لأكبر مدة ممكنة من الزمن في ذلك القصر الرمادي الساحر.
لا يمكن أن ننسى عملية الاقتلاع المؤلم لأمهات الأشجار على الطريق المعبد الرئيسي ابتداء من توجنين مرورا باكلينيك ووصولا إلى أفاركو، و"لن تغفر الأشجار للحطاب" على تعبير أحد الشعراء الممعنين في إنسانيتهم وشجريتهم عميقا.
كلنا كذلك نتذكر استئصال ابلوكات وما تحمله من رمزية تاريخية لا تقدر بثمن طمسا لكل ما له علاقة بالتاريخ،واستئصالا لكل ما يمكن أن يعطي انطباعا أن موريتانيا ولدت قبل ٣أغسطس ٢٠٠٨. لقد كان الرجل يؤسس لحكمه الممتد منذ وصوله إلى السلطة بعد أن تأكد من غباء المعارضة السياسي؛ منذ وصفت انقلابه بالحركة التصحيحية إلى اتفاق دكار.
بعد وصوله إلى السلطة واستتباب الأمور له أخذ "الجنرال في متاهته" يخطط لما أسماه تجديد الطبقة السياسية ولم يكن الأمر سوى بيان نعي مبكّر للطبقة السياسية المعارضة تقليديا، فهل رأيتم في العالم نظاما سياسيا يجدد الطبقة السياسية المعارضة بنفسه ليختار من سيعارضه؟
بعض الشباب الطامعين أكثر من اللازم ظنوه يعني بتجديد الطبقة تشبيبها وشتان بين الاثنين، لم يتمهل الشباب كثيرًا وانخرطوا في حزب قيل إنه للشباب لكنه سرعان ما انهار لأنه لم يرد له أصلا أن يوجد، وهنا وقع الشباب ضحية لنفس الفخ الذي وقع فيه الكهول والشيوخ المعارضون.
في إطار موريتانياه الجديدة دوما وبحثه عن تحقيق أسطورته الشخصية تطاولت يده إلى ما كانا يعتبران من الثوابت وغيّرهما "العلم والنشيد" من خلال تغيير مواد في الدستور تمهيدًا لتغيير الدستور ليسمح له بمأموريات لا نهائية ولحكم مدى الحياة ربما.
ولأنه يدرك أن السلطة والحكم مرتبطان بشكل مشيمي بالمال والاقتصاد
فقد عمل النظام على خلق طبقة جديدة من رجال الأعمال، ليستيقظ الموريتانيون على أسماء جديدة ومسميات وشركات مستحدثة من المحيط الأُسَري والقبلي والجهوي لساكن القصر الجديد، أما الطبقة الرأسمالية التقليدية فقد تم إما تقليم أظافرها بالمضايقات والضرائب وبالسجن أحيانا أو بالتضييق عليها إلى درجة الهروب من البلاد. كان الكل يرى هذه الأوضاع الجديدة تتشكل أمامه ولم. يكن هناك من يصدق أن الرجل يهيأ البلد لنفسه على المدى الطويل.
سعى النظام بكل جهوده إلى تفكيك المعارضة التقليدية بشتى الوسائل المادية والسياسية ووجد الفرصة على طبق من ذهب حين قاطع معظم تلك الأحزاب انتخابات يونيو 2014.
ظل يوجه أسلحته دوما إلى المعارضة التقليدية والتي حاوره بعضها وناطحه بعضها الآخر فذهبت قوتها في التنابز بالألقاب والتصنيفات، بينما ظل الحزب الذي كان الحزب الأضعف من بينها يواصل العمل في صمت وهو حزب "تواصل" الإسلاموي، فقد أدرك التواصليون أهمية التواصل مع القواعد وضرورة العمل الميداني؛ محضرين أنفسهم ليرثوا معارضة كانوا يرونها تشيخ وتستنزف، وكانوا في دواخلهم يبتسمون كصياد حاول أن يقضي على سمك قرش يهدده فإذا بتمساح ضخم فجأة يظهر ويبتلع القرش ثم يمضي إلى حال سبيله.
هكذا أصبح حزب تواصل عمليا أكبر أحزاب المعارضة في زمن قياسي؛ نظرا للظرف السياسي المواتي ونظرًا للإمكانات المادية الهائلة والمجهودات الاستثنائية ونظرًا أخيرًا لأنهم لعبوها صح.
والآن بعد أن خرب نظام ولد عبد العزيز المعارضة المدنية التقليدية ها قد جاء الزمن الإخواني التواصلي، وأصبح النظام في ورطة، طبعا حاول محاولات يائسة أشبه برقصة الديك المذبوح لخلق معارضة من داخله، وهي ما عرف بأحزاب الأغلبية؛ والتي كانت تُهيأ لأخذ دور المعارضة التقليدية لولا شطارة التواصليين. كما حاول أن يخطف من التواصليين ورقة المعطى الديني من خلال إنشاء إذاعة القرآن الكريم وقناة المحظرة؛ واستعراضات أخرى مثل لثامه يوم وعد بقتل ولد امخيطير ويوم قدم نفسه مطبقا للشريعة، ولكن في النهاية كان الزمن زمن "المودودي" وليس "آب ولد اخطور".. لقد انتصرت الجمعيات على المحظرة، وانهزمت القناة أمام وسائل التواصل الاجتماعي.
والآن تأتي هذه الانتخابات في فاتح سبتمبر لتعطي خلاصة حوالي عشر سنوات من نظام ولد عبد العزيز، وهي خلاصة مرة ولكنها هائلة الحقائق وهو أن موريتانيا اليوم مخيرة بين حكم العسكر وحكم الإخوان.. بين استغلال الثروات من أجل الهيمنة، وبين استغلال الدين لأهداف سياسية.
لقد صار النظام في ورطة حقيقية ويتجلى ذلك في الخطابات الأخيرة للرئيس عزيز والتي استشف بعض المراقبين منها احتمال حل حزب تواصل بوصفه منافسا مزعجا للنظام؛ وهو ما يعبر عن مدى التخبط لنظام لا يملك مشروع مجتمع غير الوصول إلى السلطة والاستمرار فيها ولو اقتضى ذلك القضاء على كل المنافسين، فهل سيفعلها هذه المرة ويتخلص بكل وقاحة من حلفاء الأمس؟
أم أن البلاد من جديد على شفا انقلاب آخر وفاءً للحلقة العدمية التي ألفاناها وتخييرًا للمجتمع الدولي بين الاستبداد أو الإرهاب؟
لا شك أن عزيز سيأتي من "محور الشر" باقتراحات جديدة ومهمة له شخصيا خلال زيارته الراهنة لجزء آسيا المغضوب عليه.