بات من شبه من المؤكد أن أطراف الأزمة السياسية بموريتانيا تجاوزت العقبات الرئيسية من أجل إعادة الهدوء السياسي للشارع بعد تقاسم للسلطة أنضج بشكل متوازن علي نار هادئة بالعاصمة السينغالية دكار.
وبات من شبه المؤكد كذلك أن أوراق العملية السياسية أختطلت بشكل لافت خلال الساعات الماضية مع إعلان ولد محمد فال ترشيح نفسه للرئاسيات ليكون رابع المرشحين الجديين لإستحقاقات الثامن عشر من يوليو (عزيز _ داداه_ بلخير) فاتحا المجال أمام موجة جديدة من التحالفات السياسية لما تتضح معالمها الرئيسية حتي الآن.
وبات من المعلوم كذلك أن الأطراف الخمسة الرئيسية حسمت أمرها ولو بشكل غير معلن من خلال بقاء "عزيز" في السباق مرشحا للمجلس العسكري وأغلبيته البرلمانية ودخول ولد داداه للسباق منتشيا بما حققه من انجازات مهمة علي مستوي الحكومة واللجنة المستقلة للانتخابات بعد تحالف صعب مع الجبهة المناوئة للانقلاب،ودخول ولد محمد فال السباق مرشحا باسم المال والوجهاء التقليديين،وعودة ولد بلخير إلي الساحة الرئاسية من جديد مستفيدا من تعبئة جدية بين أنصاره غذتها شهور من الحرمان والإضطهاء السياسي ،بينما يقترب ولد مولود ورفاقه من الانحياز إلي مرشح التكتل وأعينهم علي الوزارة الأولي في أي تشكلة حكومية تكون من نصيب المعارضة في المستقبل.
غير أن التيار الإسلامي لا يزال في منعطف صعب تتجاذبه اكراهات الساعة وتدفعه رياح التغيير التي هبت لاتخاذ موقف أقل ما يقال عنه إن أصحابه لن يكونوا مرتاحين وهم يتخذونه ضمن الأطر الحزبية ولن يكونوا مسرورين وهم يعلنونه للجماهير.
فالتيار الإسلامي الذي دخل المواجهة مع العسكريين مبكرا من خلال الدفع باتجاه تشكيل الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية وأستمر فيها طيلة الأشهر التسعة الماضية متمسكا بشرعية رئيس لم يحافظ عليه ضمن تولفة الأزمة،ومنافحا ضد دكتاتورية يدرك أنه أول ضحاياها، آلت إليه القيادة في وقت صعب (أسابيع ما قبل السادس من يونيو)،بما تعنيه المسألة من معاناة في الشارع وتحملا للمسؤولية أمام الرأي العام.
ولئن تجاوز التيار الإسلامي الاختبار الصعب باتفاق دكار الذي تداعت إليه الأطراف السياسية تحت ضغط دولي ورأى عام يضغط باستمرار من أجل نزع فتيل الأزمة،فإن مرحلة ما بعد السادس من يونيو 2009 أصعب وأعظم لدي شرائح واسعة من الإسلاميين.
لن تكون الحكومة وتشكيلها العقبة الرئيسية أمام فرقاء الجبهة المناوئين للجيش ،فالتولفة الوزارية قابلة للتوزيع بشكل عادل بين الفرقاء والتنازل فيها مقبول والأسماء فيها ليست الإشكال الأصعب أمام حزب أو أحزاب تحسم الأمور بالتصويت،لكن المحافظة علي التحالف القائم والتنسيق المحكم قبل خوض الانتخابات كلها أمور قد تعصف بالجبهة مالم تكن الرؤي واضحة لكل المشاركين فيها.
الخيارات المرة
مع اقتراب موعد فتح باب الترشح أمام الفرقاء الجدد تبدو خيارات الإسلاميين الأصعب من أي وقت مضي بسبب طغيان الهم السياسي علي الشارع وضبابية الرؤي لدي المرشحين الآخرين وصعوبة الدفع بمرشح من داخل التيار يكون بديلا لساحة سياسية ملت التحالفات لأسباب قد لا يكون الحديث عنها مجديا الآن علي الأقل.
ولعل أهم الخيارات المطروحة الآن أمام الإسلاميين هي:
1- الدفع بمرشح من داخل الحزب : ولعل هذه الخيار هو الخيار الأمثل لدي كافة منتسبي التيار الإسلامي ومناصريه،ويبدو الرئيس محمد جميل ولد منصور الشخصية الأقرب لتصدر أي طرح من هذا القبيل داخل أروقة الحزب ومقربيه.
فالرجل الذي يمتاز بقبول كبير داخل أوساط التيار الإسلامي واحترام لدي النخبة السياسية من خارجه يبدو مؤهلا لقيادة تيار شعبي له مكانته في الساحة السياسية حفاظا علي الانسجام داخل أنصاره وتجنبا لإحراج التحالفات خلال الجولة الأولي للانتخابات مع مرشحين ليسوا جميعا بالناصعين أو المقنعين علي الأقل لدي طيف كبير من الإسلاميين والشارع العام.
لا يحتاج ترشيح ولد منصور كثير عناء لتمريره داخل الأطر الحزبية ،وقد لا يكون الرجل عديم الشعبية داخل الساحة السياسية الموريتانية التي عرفته طيلة السنوات الماضية معتقلا أو مشردا أو منافحا عن حقها في الديمقراطية والعيش الكريم مع خطاب واضح وأخلاق دمثة رافقت نضاله طيلة العقدين الماضين.
لكن تبدو عقبة المال من أهم العقبات التي قد تطرح لحزب وليد كحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل" خارج من أطول أزمة سياسية تعيشها البلاد، دخلها ولما يكمل سنته الثانية في الحياة السياسية كما يقول معارضو هذه الطرح داخل الساحة الإسلامية الآن.
ومع ذلك يري آخرون من أنصار الرجل داخل الحزب أن القرار ممكن ومطروح وأنهم الـأكثر استعداد للعمل من دون موارد مالية في ظل ثقافة إسلامية تمجد البذل والتضحية ويتعلق أصحابها بأسباب السماء قبل أسباب الأرض ،لكن تظل الصورة التي أكتسبوها خلال السنوات الماضية والهالة الإعلامية التي حققوها بحاجة إلي صيانة ولو من خلال تجنب الانكشاف السياسي في بلد لا يزال المال والقبيلة أهم صانعي رجاله لا التضحية والأفكار.
2- دعم مسعود ولد بلخير : ويبدو للخيار الأخير أنصاره بين الإسلاميين فقياد "تواصل" للجبهة حاليا والأزمة الصعبة التي تعيشها البلاد،والرغبة في تحقيق نتيجة مهمة خلال جولة الانتخابات المقبلة والحاسمة وتماسك الجبهة قبل الجولة الثانية والإبقاء علي ولد بلخير ضمن إطار المعارضة القائمة للعسكريين ،كلها أمور تدفع حزب "تواصل" إلي الدفع باتجاه مرشح واحد من داخل الجبهة وهو ما يعني ولو ضمنيا ترشيح رئيس الجمعية الوطنية مسعود ولد بلخير للرئاسيات القادمة ولو لم يكن محسوما وصوله إلي القصر الرمادي في ظل مرشحين أقوياء وتوازنات مجتمعية قاتلة.
لكن لا يجادل أحد أن غالبية أعضاء حزب "تواصل" ليسوا معنيين بتلك التوازنات التي كثيرا ما يحرص عليها القادة ، خصوصا وأن البعض لا يري في الانتخابات الرئاسية أو البلدية سوي فرصة لترويج خطاب ينقذ التائه وفرصة لتعميم رؤي حرص أصحابها علي الترويج لها ولو بشكل سري طيلة العقود الأولي للنشأة،وتقديما للأصلح من أجل القيادة ومع الإعداد الممكن وترك نتائج الأمور علي الله.
بدعم ولد بلخير قد تكون تكاليف الإسلاميين المادية أقل ،وقد يتحقق قدر من الانسجام ولو شكليا مع فئة من شرائح المجتمع عانت الكثير من العزلة والتهميش،لكن من دون شك للتحالف ضريبته السياسية في مجتمع قبلي ،والتنطيمية في بلد لا يزال الولاء فيه للمؤسسات محدود،واضغاما لتيار لما تجبره عاديات الزمان علي البحث عن غظاء.
3- دعم أحمد ولد داداه : الخيار الثالث والأرجح لدي فئات عريضة من حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية وخصوصا علي مستوي المكتب السياسي للحزب هو دعم مرشح الرئاسيات أحمد ولد داداه تعزيزا للوحدة القائمة بين أنصار المعارضة وتكفيرا عن ذنب الحادي عشر ابريل 2007 ،ودفعا باتجاه تغيير ممكن لقواعد اللعبة السياسية وتخفيفا للأعباء المادية رغم ما قد يترتب علي الأمر من تداعيات سياسية داخل وخارج الحزب وعودة منطقية للمسار الصحيح كما يري أنصار زعيم المعارضة ولد داداه.
يدرك الإسلاميون أن وصول زعيم التكتل حاليا للسلطة مستبعد في ظل موازين تميل لخصومه مالم تحدث مفاجئات من نوع كبير،ويدركون أن شرائح عريضة من مناصريهم ومحازبيهم ترفض العودة لقواعد التكتل بعد "الغدر" في واد الناقه و"التآمر في "تفرغ زينه" و"التقاعس" أيام الامتحان الصعب 2003 و"التشهير" قبل أسابيع.
ومع ذلك يظل خيار التحالف مع زعيم المعارضة الأقرب بعد الخيار الأول والأقل تكلفة من بين كل الخيارات الأخرى سواء التي تحدثنا عنها أو المعلومة من السياسية بالضرورة.
لعل تلك أهم الخيارات الآن أمام حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية في ظل الوضع القائم قبل جولة الانتخابات الأولي مالم تحدث تغييرات جذرية في خطاب الأطراف السياسية الأخرى أو في مواقف الإسلاميين وهو أمر مستبعد لحد الساعة.
فالعقيد اعل ولد محمد فال الذي رفض الترخيص للإسلاميين وشارك في حملة الاعتقال التي طالتهم طيلة السنوات الأخيرة من حكم ولد الطايع وأمعن في حرمانهم من أي حق في الحياة السياسية منذ 1991 لا يبدو مطروحا علي أجندة النقاش إلا من باب التنويع والترويح عن النفس خلال ساعات النقاش الطويلة والمملة.
كما لا يبدو دعم مرشح الرئاسيات محمد ولد عبد العزيز ضمن أولويات الإسلاميين رغم حربه المعلنة علي الفساد وقراره الصارم تجاه سفارة تلابيب بحكم الطبيعة العسكرية للرجل غير الشورية في أغلب الأوقات،والحلقة السياسية المحيطة به وغالبيتها من مراهقي السياسية ممتهنى العداوات الشخصية أو هكذا بدت صورتهم للرأي العام طيلة الشهور الأخيرة من عمر الصراع السياسي في موريتانيا.