"لحظة من فضلكم جميعا.. هل تعرفون أين تقع قرية التواجيل؟ ربما على المريخ بالنسبة لمن لا يعرف الجغرافيا.. ما أغرب هذه البلاد التي تتعرض أجزاء واسعة منها لكوارث طبيعية قاتلة بسبب الأمطار والسيول الجارفة، ويموت فيها عدد من المواطنين منذ أكثر من 12 ساعة ولا يتحرك فيها ساكن؟
حتى خبر الكارثة في القرية المنكوبة لم ينشر رسميا حتى الآن.. ولم نرصد أي تصريحات رسمية لحد الساعة..
أين الحكومة؟ أين السلطات الإدارية؟ أين الإعلام الرسمي؟
استمعت قبل قليل لموجز 12 زوالا على إذاعة موريتانيا.. ولا ذكر للخبر؟ طالعت موقع الوكالة الموريتانية للأنباء.. لا حس ولا خبر؟"
أثارت اهتمامي كثيرا التعليقات المختلفة التي وردت إلى صفحتي على الفيسبوك بعد نشر التدوينة أعلاه ظهر اليوم. وقد استوقفني تعليق طريف يحاول تفسير ظاهرة العجز التواصلي والتعتيم الإعلامي الذي تعاني منه أجهزة الإعلام الرسمي التي أصبحت منذ فترة، تحبذ أن تلقب بـ "إعلام الخدمة العمومية" دون أدنى وعي للمتطلبات الحقيقية لمثل هذه التسمية الواعدة..
أوضح المعلق السيد الشيخ التراد، بأنه في دولة ممركزة لا تجرؤ وسائل الإعلام الرسمية على وضع أي خبر حتى تجد التعليمات لذلك، معتبرا بأن المعضلة تتمثل في أن الحكومة لا ترغب في ذكر أخبار الكوارث الطبيعية في بلادنا حتى يكون مصحوبا بذكر ما قامت به الحكومة كردة فعل. وبما أن تحرك الحكومة يطبعه عادة البطء إذا ما تحركت فعلا، فعلينا أن لا ننتظر منها أي ذكر لخبر الكارثة مهما كانت جسامتها.. إلا بعد أن تكون الحكومة جاهزة للتدخل ولو بعد أسبوع.. عند ذلك لن يكون الخبر عن الكارثة ولا عن تأثيرها المأساوي على حياة المواطنين، بل سيكون خبرا عن الزيارة الرسمية للمسؤول الفلاني.. وبالتالي، فالمواطن ليس أهلا لأن يكون مادة إخبارية إلا إذا كان ذلك ضمن مهمة رسمية يتقاضى أصحابها بدل أتعاب وتعويضات وترصد لها ميزانية، إلخ..
إذن، من هنا نفهم جيدا لماذا كتب على هذه البلاد أن تبقى عاجزة من الناحية التواصلية حتى بعد سنوات من تحرير الإعلام السمعي البصري ومن إعادة هيكلة القطاع الإعلامي الرسمي أو "المينستريم "..
إن ما تحتاجه البلاد ليس إعادة هيكلة بل إعادة تأسيس لملف الإعلام والاتصال بما يتماشى مع وضع دولة ديمقراطية تعددية، ترجع السيادة فيها للشعب وللمواطنين، والولاء لمؤسسات الجمهورية، ويطبق فيها القانون والنظام على الجميع بمساواة وعدالة. وهو ما يقتضي إعادة توجيه الإعلام في خدمة ثقافة التواصل و البحث عن الحقيقة و رصد اهتمامات المواطن المشروعة و مناقشة قضايا التنمية المستدامة.
وتبعا لهذا المنطق، يتوجب على المؤسسات الإعلامية العمومية أن تحدث قطيعة نهائية مع تلك الخلفية الديماغوجية المبطنة للخطاب الإعلامي الرسمي الذي تعود - طيلة عشرات السنين وتحت كل الأنظمة السياسية المتعاقبة- على احتقار المتلقي والاستخفاف بعقله و وجدانه. بل و النظر إليه كمجرد "مجال" محتكر تمارس عليه دوما عملية اتصال تسلطي، أحادي الاتجاه من أعلى إلى أسفل.
لكن، هل بالإمكان تحقيق نقلة نوعية في مجال تحرير و تطوير الإعلام السمعي البصري قبل البدء في إصلاح حقيقي يستهدف القطاع العمومي بشكل جاد؟
كيف تستنبت "خدمة إعلام عمومي" موضوعي وسط بركة راكدة تتناثر حولها قواقع إعلام رسمي متحجر؟
كيف يمكن أن تنتعش ثقافة الرأي و الرأي الآخر في ظل إعلام شمولي، أحادي الاتجاه، دوغمائي النزعة و ضحل المحتوى؟
لماذا لم تبادر السلطات في موريتانيا حتى الآن إلى إعادة رسم الإستراتيجية الإعلامية للدولة بشكل يعيد تحديد الوظيفة التواصلية الجديدة لوسائل الإعلام العمومي في ظل سيادة الديمقراطية و الاحتكام إلى القانون؟
و لماذا لا تسن قوانين ملائمة تشرع إستراتيجية تواصلية وطنية حقيقية بدلا من التغاضي عن الفوضى الإعلامية أو الركون إلى تسويق التوظيف السياسي للإعلام؟
أعتقد بأن من المهم بالنسبة لموريتانيا في الوقت الراهن أن تعيد الاعتبار - بدون مزايدات ولا مناورات- لقيم التواصل والإعلام الحر كفضائل أخلاقية و إنسانية و كضرورات حياتية لا غنى عنها من أجل نجاح التحول الديمقراطي ومواكبة التنمية المستدامة في البلاد.
خلال أكثر من خمسين سنة كرس الإعلام الرسمي عشرات الصور النمطية السلبية التي تظهر الحكومة كنصف آلهة أسطورية تخاطب قطيعا بشريا من القاصرين و العجزة.. تتصدق وتتكرم عليهم في كل ما تقوم به.. و تتطاول على كرامتهم ازدراء و استخفافا بدون حساب.. فالحكومة هي دائما صاحبة اليد العليا ، تعطي و تمن، تزجر و توبخ.. تحتفل و تنتشي.. تعرض نفسها و تستعرض أنشطتها و قدراتها بشكل مبالغ فيه أمام جمهور من المستمعين و المشاهدين غالبا ما يصورهم الإعلام الرسمي كأناس معتوهين.. مثيرين للشفقة..
لقد أظهرت دراسة حديثة قام بها باحثون موريتانيون حول الإعلام و التحولات الكبرى للمجتمع بأن خمسين سنة من هيمنة الـ "مينستريم mainstream" قد كرست ظهور المواطن الموريتاني دوما في صور نمطية ذات إيحاءات بالغة السلبية أنتجها إعلام رسمي متغول.
فالمواطن الموريتاني في وسائل الإعلام العمومي إما شاهد زور يلقن ما سيقوله، أو مهرج يطبل بكل غباء، أو "شحات" يستدر العطف و المساعدة، أو خصم مخالف في الرأي يستحق التوبيخ و السب و الشتم، أو هو ضال تلتمس له الهداية، أو أعرابي لا يفقه شيئا عن المدنية، أو كسول لا يريد العمل و الإنتاج، أو خارج على القانون تنبغي معاقبته، أو مخبر فاشل لا يحسن الإبلاغ، أو إرهابي يتوجب التنكيل به.
هذه باختصار بعض من تلك الصور النمطية السلبية التي يتوجب على الإعلام العمومي - من الآن فصاعدا- الإقلاع عنها و استبدالها بصور إيجابية تكرس المواطنة و تحترم الرأي و الرأي الآخر، و تخدم التنمية المستدامة.. بعيدا عن لعبة الاستخدام "السياسوي" المزدوج في التطبيل و التزمير و السب و القدح .. و تغليب التمصلح..و التزلف و النفاق و إتباع الأهواء و الأمزجة.
أما السلطة العليا للصحافة و السمعيات البصرية فلا بد من إرادة جمهورية حقيقة و جادة لتفعيلها و إعادة تأهيلها لتشب عن الطوق ..و تتجاوز مرحلة الديكور و المحاكاة و تصبح مستقلة تماما و قادرة على ممارسة كامل صلاحياتها التحكيمية في مجال تنظيم السمعيات البصرية كمؤسسة جمهورية سيادية كاملة السلطة. القوانين مهمة.. و السياسات مهمة.. لكن يبقى الأهم هو التطبيق السليم.. و الصبر على النقد الذاتي و التقييم الموضوعي والتطوير.
لا بد للثلاثي المتحكم (الحكومة والسوق النخبة) من تسهيل عملية تحرير العقول أولا.. قبل تحرير الإعلام من أجل إعطاء مضمون حقيقي لشعار "خدمة الإعلام العمومي"، لكي يتسنى للقائمين على المؤسسات الإعلامية انتهاج أسلوب مهني في الطرح الموضوعي و المعالجة الجريئة و المتوازنة.. بعيدا عن كل الإغراءات و الضغوط و الممارسات الزبونية المخلة بشرف تعاطي مهنة الإعلام و التواصل المفيد في هذا البلد الذي لا شك بأن الجميع يكنون له الحب والوفاء.. لكن كثيرين منهم- للأسف- يسيئون إليه بقصد أو بغير قصد.
نواكشوط، 19 سبتمبر 2018
محمد السالك ولد إبراهيم
باحث/ مدير المركز الموريتاني لأبحاث التنمية والمستقبل