اكتملت وأعلنت نتائج انتخابات 1 و 15 سبتمبر 2018 الأصعب والأعقد والأشرس منافسة في تاريخ انتخابات البلاد، وعرف كل ماله وحجمه ورقعته على الساحة السياسية الوطنية، فصعدت أحزاب وتراجعت أخرى، وكان على رأس الصاعدين، المعززين لرصيدهم المستحوذين على غالبية الأصوات والمقاعد النيابية والبلدية والجهوية، خصوصا في انتخابات
شهدت أوسع مشاركة سياسية، حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، وكان من بين المتراجعين كافة أحزاب المعارضة الراديكالية سواء منها من شارك في انتخابات 2013 بحيث يمكن قياس نتائجه في هذه الانتخابات بنتائجه في تلك، أو من لم يشارك في تلك الانتخابات وكانت آخر مرجعية لنتائجه تُقاس عليها نتائجه الحالية هي نيابيات 2007، حتى أن بعض قادتها لم يفلحوا في دخول البرلمان هذه المرة بعد أن كان بعضهم أعضاء فيه، وكان بعضهم الآخر واثقا من القدرة على دخوله في أول انتخابات.
تراجعت أيضا نتائج بعض أحزاب المعارضة المحاورة بالنسبة لمن شاركوا منها في انتخابات 2013، بينما خرج بعض أحزابها من البرلمان القادم، وشخصيا أفسر هذا التراجع في نتائج هذه الأحزاب، واضطرار مرشحي حزب الاتحاد للدخول في شوط ثان في مناطق عديدة إلى عامل الانفجار أو الوفرة في عدد المترشحين في بلد ليس الهند ولا نيجيريا عدد المصوتين بهما بمئات وعشرات الملايين، بحيث يتحمل العدد الضخم للمصوتين هذا الكم الكبير من المترشحين، عكس بلدنا الذي كان عدد المصوتين فيه خلال هذه الانتخابات 1.2 مليون فقط مقابل آلاف المترشحين تشتت بينهم أصوات عشرات الآلاف من غير المصنفين سياسيا..
والأكيد أن من تشتت أو توزعت أصواتهم على المترشحين من غير أحزاب الاتحاد والمعارضة الراديكالية والمعارضة المحاورة كانوا غير مصنفين سياسيا وإن كانوا بالتأكد، أو على العموم، ليسوا من ناخبي المعارضة الراديكالية الذين كانت هذه الانتخابات وحسمها أو التقدم فيها بالنسبة لهم قضية رهان، إن لم تكن قضية حياة أو موت..! ويؤكد هذا التفسير لدي تهاوي نسبة المشاركة من 73% في الشوط الأول إلى 55% في الشوط الثاني، فدائما من تفلتوا أو تسربوا بين الشوطين، بعد خروج مرشحيهم من المنافسة في الشوط الأول، لم يكونوا من ناخبي المعارضة اعتبارا للرهان أعلاه، وإنما كانوا ناخبين موزعين بين الاتحاد من أجل الجمهورية بنصيب أكبر، وأحزاب الأغلبية وأحزاب المعارضة المحاورة، إذ يعتبر ناخبوا المعارضة الراديكالية المشحونين والمشحوذين التصويت لها " فرض عين " لا يجب أن يتخلف عنه أو يُقصر فيه أحد، بينما يعتبر ناخبوا غيرهم من الأحزاب التصويت لتلك الأحزاب " فرض كفاية " يكله المتكاسل إلى المهتم..
الأساسي الذي يحدد الكسب والنصر في هذه الانتخابات هو حيازة العدد الأكبر من نواب الجمعية الوطنية حيث اليد الطولى والطليقة في رسم السياسات وتشريع القوانين براحة وأريحية، وحيازة وترأس كافة المجالس الجهوية بعد تراجع أهمية المجالس البلدية على إثر حل مجلس الشيوخ الذي كان ينبثق من هذه المجالس، وكان التنافس يشتد على كسب أكبر عدد من المستشارين البلدين باعتبارهم هم من " ينتخبون " أعضاء مجلس الشيوخ، وأيضا بعد إنشاء المجالس الجهوية التي سيكون لها من الآن فصاعدا الدور الأبرز في سياسات التنمية المحلية.
وسنعود إل الحديث عن هذه المجالس وما ينتظره منها البلد والمواطن، وعن دور النواب لكن بعد أن نشير إلى ثلاثة أمور :
1 ـ الانتخابات وكل الحوارات المتتالية ومحاولات الحوارات خلال السنوات الأخيرة كانت كلها من أجل مشاركة المعارضة في الانتخابات وحصولها على تمثيل، والحجم في الساحة السياسية هو ما يحدد ذلك التمثيل، فليس من مصلحة الحزب الحاكم ولا الديمقراطية الإنفراد بالتمثيل في المؤسسات التمثيلية في نظام تعددي، ولا أحسبهما يعملان على ذلك..
2 ـ إجابة هذه الانتخابات على سؤال كان ينتظره مراقبون ومحللون اعتبروا أن نتائج هذه الانتخابات ستكون بمثابة استفتاء على مكانة نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز عند الموريتانيين، فبعد سنوات من حديث المعارضة عن ملل ونبذ وضجر الشعب الموريتاني من هذا النظام، وحتمية لفظه له في أول استحقاق، ها هي النتائج التي تتعزز ما بين دورة انتخابية وأخرى تُجيب، وطبعا لا شعبا يتعلق ببرنامج أو نهج أو رئيس لذاته أو لسواد عيونه.
3 ـ ضرورة وأولوية جبر التصدعات التي أحدثتها هذه الانتخابات في عدة مناطق من البلاد نتيجة لشدة التنافس والاستقطاب المحليين، وفهم وتفهم هذه التصدعات على حقيقتها كانعكاس لتنافس محلي في مجتمع لا زالت تطبعه الحميات، وتحدث هذه التصدعات عقب كل انتخابات محلية لكنها ليست حروبا ولا مواجهات، وإن كان هناك من يريدها أن تكون كذلك للاحتفاظ بتلك الوضعية لقادم الأيام والاستحقاقات.. فليباشر الحزب أو غيره إرسال بعثات للسعي في المصالحات، خصوصا أن التنافس في الأغلب كان داخل البيت والتوجه السياسي الواحد..
أتذكر أنني في مقال عقب إعلان نتائج انتخابت 2013 تمنيت عل نواب الحزب الحاكم أن لا يكونوا فقط " بريدا صوتيا " للرد على انتقادات المعارضة التي يجب أن ندرك أن دورها، وهذا عبرت هي عنه في مناسبات عديدة، هو تعرية النظام وتبخيس سياساته وإنجازاته وليس تثمينها أو الإشادة بها، فلا ينبغي أن يضيع نواب الأغلبية وقتهم في انتظار اعتراف المعارضة بتلك الإنجازات أو تزكية تلك السياسات لأنها لن تفعل، وعليه ينبغي أن يدرك نواب الأغلبية أن دعم النظام والحكومة ليس فقط مجاراتهما ومباركة كل ما يقدمانه، صحيح أن هناك إصلاحات كثيرة، وإنجازات بارزة كبيرة، ومكتسبات ثمينة، وآفاق واعدة، ينبغي دائما إبرازها والتذكير بها، ولكن هناك أحيانا اختلالات أو نواقص قد تكون غائبة عن الحكومة والنظام وقد يكونا مدركين لها، وفي كلتا الحالتين ينبغي لنواب الأغلبية التركيز عليها وإبرازها والمشاركة في نقاشها من أجل تقويمها، ولا ينبغي أن يصنف ذلك على أنه شذوذ أو سير في اتجاه معاكس أو محاولة إلحاق إضرار بالحكومة والنظام، فكلنا نرى الكلبة وهي تحمل جراءها بفمها ومن لم ير طريقة حملها لهم من قبل سيعتقد أنها تعضهم.. بينما هي في الحقيقة تحملهم من أشعة الشمس إلى الظل، ومن البرد إلى الدفيء، ومن الخطر إلى الأمان..
أما المجالس الجهوية كنظام لا مركزي جديد فالمنتظر منها هو النهوض الحقيقي بولاياتنا ومدننا الداخلية التي نسميها مدنا مجازا بينما هي لا تزال حواضر أو قرى بلا تخطيط ولا معالم ولا عمران، خصوصا أن الدولة خلال السنوات الأخيرة قامت عن هذه المجالس الجهوية الجديدة بالأهم، ولا زالت مواصلة في ذلك كفك العزلة ووضع المشروعات المائية الهيكلية، ومباشرة الربط الكهربائي بين مناطق البلاد، وتزويد عواصم الولايات بالمستشفيات الكبيرة المجهزة، وبناء الموانئ، والقيام بالإستصلاحات الزراعية العديدة..
والمطلوب اليوم هو العمل على استثمار هذه البنى التحتية المكتملة وتلك التي لا زالت قيد الإنشاء، وتلك التي سينجزها كل مجلس جهوي بكل ولاية في النهوض بهذه الولايات، بما يراعي خلق فرص العمل وتسهيل وسائل العيش في هذه المناطق من خلال تخفيض خدمات الماء والكهرباء وزيادة العرض من خدمات الصحة والتعليم لتشجيع هجرة عكسية من المركز إلى الداخل، وجعل هذه المناطق جاذبة لأهلها على الأقل بعد أن كانت طاردة لهم، ولإعادة قدر من التوازن السكاني الذي يشهد اليوم اختلالا كبيرا بفعل تمركز الخدمات في العاصمة التي لا تستطيع هى الأخرى التقاط أنفساها ولا الاعتناء بنفسها لتتطور وتتعصرن في الوقت الذي تقع تحت ضغط الهجرات المكثفة من الأرياف، ويتفاقم الضغط على خدماتها وتضطر للتمدد اللا متناهي، فلا تستطيع أم تُرضع فوق طاقتها من الرُّضع مثلا، ولا تجد فترة كافية لاستعادة قواها ما بين الولادات إيجاد الفرصة ولا الوقت للاعتناء بنفسها وصحتها، وكذلك هو الحال بالنسبة للعاصمة التي مهما قيم به فيها من خدمات ومنشآت عصرنة وتطوير، لن يكون له أثر أو قيمة في ظل التوافد السنوي لأفواج الهجرات من الأرياف لمواطنين باحثين عن وسائل عمل وعيش لا يمكن منعهم من ممارستها في العاصمة لحاجتهم إليها، وفي نفس الوقت تتعارض أنشطتهم ووسائل كسبهم تلك مع أي عصرنة أو تطوير.
فلا نريد من هذه المجالس مثلا، بعد خمس سنوات، أن تقدم لنا حصيلة هزيلة كتلك التي كانت تقدمها البلديات من قبيل ترميم مستوصف هنا، وإنشاء حظيرة لتطعيم الحيونات هنا، وبناء ثلاثة أقسام دراسية هناك..! بل يُنتظر منها أن تتغير واجهة مناطقنا الداخلية بشكل لا تخطئه عين زائرها، وبما يخدم سكانها ويثبتهم في مناطقهم بنفس الخدمات التي كانوا يهاجرون للبحث عنها في مدننا الساحلية أو أحسن وأرخص منها، تغير يغير أنماط ووسائل العيش التقليدية في هذه المناطق عن طريق تثتمينها وعصرنتها وزيادة مردوديتها وعائداتها على ممارسيها وعلى الإقتصاد الوطني ككل..