هل انتهى زمن الفتوة السياسية؟ فلا بطولات ولا أمجاد تكاد تذكر.. بعد انقشاع غبار الانتخابات العامة التي عرفتها البلاد خلال الأسبوعين الأولين من الشهر الجاري..
ها قد عرفت بالتفصيل النتائج.. وطبيعي أن يفرح البعض أو يتحسر..
وربما امتعض آخرون.. لكن، لا شك بأن كل طرف بات يعرف في قرارة نفسه حدود إمكاناته الحقيقية.. وحجم التحديات الجدية التي يواجهها.. ولا حاجة بعد اليوم لمزيد من العنتريات وتغذية الأوهام.. التي قد تشنج الموقف أكثر وترفع حالة القلق والترقب لدى الرأي العام والوطني.. إلى حدود قصوى..
أعتقد بأن الأهم هو أن تتمكن النخب من كل الأطياف في هذا البلد، من الخروج من قواقعها والتفكير جديا من أجل القيام بقراءة متأنية لنتائج هذه الانتخابات بأعين وعقول غير تلك التي كانت تدير بها الحملة وما رافقها من تشنج ونزق، ومسلكيات سلبية هي نقيض الروح الديمقراطية..
لدي شعور عميق بأن مؤشرات حدوث "تسونامي" سياسي جارف في هذا البلد قد بات وشيكا، بغض النظر عن ميزان القوة الجديد، ومقدار فوز أو خسارة هذا الطرف أو ذاك في الانتخابات الأخيرة..
أعتقد بأن ما حدث ويحدث أو قد يحدث بعد الآن، رغم كونه شيئا يبقى "مجهولا" لحد الساعة، لكنه كبير جدا وخطير جدا.. إنه شيء ضخم ينبغي أن لا تحجبه عنا آخر أنواء فصل الخريف ورياح "ألاوه" التي تهيمن هذه الأيام على مجال الرؤية وتحد منها على طول البلاد وعرضها..
فهذا الشيء "المجهول" يعنينا جميعا كموريتانيين في صميم وجودنا وكينونة بلادنا.. فهل سيقبل كل منا بأن يقف وقفة تأمل وتجرد وتفكير عميق، من أجل سلامة واستقرار واستمرار بلدنا في المستقبل المنظور؟
هل ستستطيع النخب في هذه البلاد بناء "سفينة نوح" من خلال تشكيل "براديغم" "paradigme" سياسي جديد يتسامى على الثنائية القطبية ويكون بمثابة فُلْكِ سياسي لإنقاذ البلاد؟ هل نستطيع الإمساك بالفرصة الأخيرة قبل الطوفان؟ أم سندعها تتفلت من بين أيدينا في غفلة، مجاملة أو غرورا ومكابرة أو طمعا في فتات؟
مرة أخرى، يتضح جزء من التحديات اللامتناهية التي تواجهها مشاريع التحول الديمقراطي في بلدان العالم النامي، خاصة في القارة الإفريقية والوطن العربي. و لعل من أغرب تلك التجارب و أجدرها بالدراسة و التتبع - ضمن هذا السياق - هو مشهد التجربة الموريتانية، التي يمكن اختصارها في مغامرة تشييد صرح ديمقراطي فوق رمال الصحراء المتحركة.
إنها حقا لحظة حاسمة ومفترق طرق دقيق بالنسبة لموريتانيا. هذه هي المرحلة "الانتقالية الحقيقية" التي يجب أن يحرص كل الشركاء في السلطة كما في المعارضة بكل أطيافها، على عبورها معا، ليصلوا بالبلد إلى الضفة الأخرى بدون خسائر قد تعصف جديا بالسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي في البلاد.
عند ذلك فقط، يمكن ترميم السفينة، وتصحيح الأخطاء و استكمال النواقص. أما إذا لم تحضر الحكمة والتعقل والتبصر والتجرد من الأهواء والمصالح والقدرة على مواجهة الضغوط والابتعاد عن الحسابات الآنية.. فإن "تسونامي" المجهول قادم لا محالة..
لذا، ينبغي أن يدرك الجميع في الوقت المناسب، بأنها مسؤولية وطنية لا يمكن أن تتساهل الأغلبية ولا المعارضة - خصوصا ضمن هذه المرحلة الحرجة – في حسن تقديرها والتعامل معها.
فإما أن تختار الأطراف التي يمكن أن تشارك في تشكيل "البراديغم" أو الْفُلْكِ السياسي الجديد-القديم، سواء في السلطة أو في المعارضة- الاستمرار في مناورات تكتيكية لكسب بعض النقاط في الوقت بدل الضائع ضمن لعبة التجاذب والصراع المستطير على السلطة وتقاسم الامتيازات والمنافع، قد تصمد لبعض الوقت... و إما أن يقرروا معا - بجرأة و بحكمة- الدخول في خيارات إستراتيجية إصلاحية شاملة، تعيد بناء جسور الثقة، وتعمق التجربة الديمقراطية، وتضمن للبلاد استقرارها السياسي، وتعيد فتح الآفاق أمام التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة، بما يخفف من المعاناة اليومية للمواطنين من مختلف الطبقات و البيئات الحضرية و الريفية، ويسهم في نزع فتيل الطابع الصراعي للعلاقات المجتمعية والاقتصادية، ويعيد ضبط و توجيه "عنفها" نحو مجال التنافس السلمي و المدني الايجابي.
فهل ستستطيع تلك الأطراف السياسية أن تحول "فوز" كل منها بجزء من أصوات الموريتانيين والموريتانيات إلى شيء أكبر من مجرد نصر انتخابي.. أي إلى نجاح سياسي استراتيجي برسم البلد وشعبه و مصالحه العليا؟
أم هل ستدخل الديمقراطية الموريتانية- في ظل ديناميكية التجاذبات الجارية وتداعياتها المحتملة- مرحلة من الارتداد والنكوص ربما تؤدي إلى تراجع وتقهقر التجربة نفسها في مناخ الصحراء المعروف بتقلباته المفاجئة؟
وهل يتوقع نجاح تجربة ديمقراطية بدون ديمقراطيين؟
نواكشوط، 20 سبتمبر 2018
محمد السالك ولد إبراهيم
باحث/ مدير المركز الموريتاني لأبحاث التنمية والمستقبل