ينظر الكثيرون إلى السيد با أمادو الملقب أمبارى باعتباره رجلا محظوظا لم تمنعه كل المعوقات من تسلق كرسي الرئاسة أخيرا ولو بطريقة شكلية ليصبح أول إفريقي موريتاني يتسلم هذا المنصب في تاريخ الدولة الموريتانية المعاصرة..
ربما شكلت هذه السابقة مفاجأة للكثيرين في بلد لم تترك الصراعات الدموية أحيانا على السلطة لغير عسكريين وقدماء نخبة السياسية مجالا للمشاركة السياسية في صنع القرار فالاستقرار السياسي لم يجد أبدا الفرصة للتعبير عن نفسه محليا فالكل منهمكون في الصراع لذلك لم يكن هناك وقت للبناء والتنمية اللهم إلا تلك الفقرة العابرة من التاريخ الممتدة من الاستقلال وحتى حرب الصحراء حوالي 15 سنة تقريبا كانت الجهود منصبة فيها على إقناع الموريتانيين بدولتهم الحديثة ومحاولة استقطابهم للمشاركة في بنائها بعد ذلك جاءت الحروب والقلاقل والانقلابات وذهب الرجال القلائل الذين صنعوا التاريخ ليخلف من بعدهم" خلف" صنعه التاريخ صناعة اتضح فيما بعد أنها لم تكن قوية ومحكمة وقابلة للصمود..
وفي النقطة الفاصلة بين رجال صنعوا التاريخ الموريتاني الحديث ورجال صنعهم ذلك التاريخ يقف با أمبارى الذي لم يشارك قطعا في صناعة التاريخ كما أنه ليس صنيعة للتاريخ السياسي المحلي فالعارفون به لا يتذكرون الكثير من تفاصيل حياته السياسية خاصة ما قبل العقدين الأخيرين حيث برز فجأة إلى جانب مجموعات سياسية زنجية ضعيفة استهوتها المشاركة السياسية والارتباط بالأنظمة القائمة مهما كان شكلها..
يقال عنه إنه صاحب جنسية مزدوجة(موريتانية,فرنسية ) وأنه بلا ماض سياسي "نضالي" يمكن الاستناد عليه وقد ارتفعت أصوات عديدة ضد توليه أي منصب باعتباره صاحب جنسية فرنسية وبالتالي فإن ذلك يفقده القيمة الوطنية المضافة وهي نفسها الأصوات التي نادت باستبعاد السيد صار ابراهيما وعدم التمكين له سياسيا باعتباره مواطنا سينغاليا لم ينل الجنسية الموريتانية قبل بداية سبعينيات القرن الماضي ويقال نفس الشيء أيضا عن القيادي الزنجي البارز كان حاميدوبابا
أمبارى شق طريقه بصعوبة فلا ازدواجية الجنسية ولا تهم سوء الفساد المرتبطة بمنصبه كرئيس لمجلس الشيوخ وحتى قبل ذلك في المناصب السياسية التي شغلها من حين لآخر كل ذلك لم يمنع الرجل من تسلم كرسي الرئاسة ولو رمزيا عندما قذفت به أمواج الأزمة الحالية بقدرة قادر إلى ذلك الكرسي..
يرى البعض أن الأمر يتعلق بذكاء الرجل وحظه "الذي يكسر الحجارة" كما يقال ففي بداية الانقلاب ارتأى با أمبارى الذهاب إلى صف المعارضة وجاهر" ولو بصوت مبحوح" برفضه للانقلاب غير أن العسكريين اكتشفوا شيئا ما في الرجل جعلهم يصرون على استمالته ترغيبا أو ترهيبا فكان لهم ما أرادوا خاصة عندما بدؤوا يسربون معلومات تتعلق بسوء تسييره المالي وازدواجية جنسيته وألحقوا ذلك بتسريبات تؤكد أنه سيتم التخلص منه "دستوريا" بتعيين السيد محسن ولد الحاج خلفا له..
تحرك عقل الرجل الجنوبي القادم من الضفة بسرعة الأفارقة وحذرهم ولكن أيضا بعفويتهم لتي تحسم الأمور وفقا لاعتبارات خاصة فرأى أن الخناق بدأ يضيق عليه في زمن صعب بكل المقاييس يتسم بحدة الأزمات السياسية والاقتصادية.. كان عليه أن يختار بين المعارضة وما تعنيه من استبعاد له وتصفية سياسية ربما تقوده ملابساتها إلى السجن بتهمة الفساد ليلتحق بمن يقول العسكريون إنهم بددوا ثروات البلاد من جماعة يحي ولد الواقف والذين يقول أنصارهم إنهم نشطاء سياسيون يدفعون ثمن مواقفهم من الانقلاب وإما أن يرتمي في أحضان العسكريين لإصلاح "الدارين" خاصة وأن ترغيب العسكريين بدا للرجل أكثر إغراء من الترهيب الذين يلوحون به.. لم يكن الرجل ليختار المعارضة وتبعاتها وهو الذي بلا قيمة سياسية وليس عنده من يحمي ظهره على الأقل داخليا ثم انه متقدم في السن ومن واجبه أن يترك لذريته على الأرض شيئا أفضل من المعارضة والسجن والإقصاء وهل هناك أفضل بالنسبة له ولأهله ومقربيه من الارتماء في أحضان العسكريين الذين كافئوه برئاسة ستبقى له امتيازاتها ما بقي على قيد الحياة بل إنها ستصبح "كلمة باقية في عقبه"!!
الأزمة إذن صنعت با أمبارى بكل المقاييس قد يكون نجح في انتهاز الفرصة وقد تكون كل الظروف هيئت له للوصول إلى منصب الرئاسة غير أن الفراغ الدستوري الناجم عن الصراع على السلطة وتحكيم الرجل لعقله كلها أمور ساهمت في صنعه من مواد الأزمة "الخام"
ليس سرا أن "أمبارى" ليس رجلا سياسيا صاحب وزن في منطقته أو على المستوى المحلي كما أنه ليس سرا أن شغله لمنصب الرئاسة هو مجرد "مسرحية دستورية" ليست حسنة الإخراج ولكن اللافت في الرجل هو ذلك الهدوء الإفريقي الخلوق الذي تعامل به مع الازمة كلها أيام راودته ظنون المعارضة ثم أيام راوده العسكريون عن نفسه ثم حتى بعد جلوسه على كرسي الرئاسة الهزاز فهو لم يضف شيئا ولم يطلب شيئا ولم يحرك ساكنا الفرق بينه وبين ولد الشيخ عبد الله أن ولد الشيخ عبد الله الذي يتقاطع معه في الهدوء وضعف الحضور الشخصي والفراغ السياسي تاريخيا جاء به العسكريون عبر صناديق الاقتراع ولم يقفزوا به "دستوريا" لينزلوه بمظلة في القصر الرمادي
دخول با أمبارى إلى القصر وباستثناء انه أول زنجي موريتاني يدخل القصر الرمادي باعتباره رئيسا للبلاد فانه لم يكن يعني شيئا فهذا الرجل تحت الرقابة والوصاية وباستثناء استقبالات رمزية وتوقيع شكليات رسائل التهاني والتعازي لرؤساء دول العالم فليس لدى الرئيس "المفروض" ما يفعله تماما كما كان عليه حال الرئيس" المرفوض" الذي انتهى به المطاف حبيس مسقط رأسه في لمدن..
كل الذين رأوا أمبارى يدخل القصر أحسوا بأنه لم يغير أي شيء حتى الدراعة والقميص الفضفاض والأحذية وملامح المفاجأة الأبدية على وجه معرورق يحمل عينين حائرتين وشاربا كثا أمور لم تتغير في الرجل وربما لذلك دلالة قوية فلو لبس هذا الرجل غير لباسه المعروف لاعتقد العسكريون أنه يريد الخروج من جلده مرة أخرى أو أنه يتحين غبش الفجر لإقالة احد ما داخل هرم السلطة.
اليوم يجلس الرجل الذي صنعته الأزمة خائفا يترقب فالذين أجلسوه يحسبون شهيقه وزفيره وحركاته وسكناته ويضعونه تحت الأضواء الكاشفة التي تزداد قوة واتساعا واختراقا مع الساعات الأولى لفجر كل يوم جديد حتى لا تصنع الأزمة رجلا بديلا له وربما بملامح عسكرية قد يأتي في طرفة عين.