بل الحل في مواصلة المسار (1) / محمدو ولد البخاري عابدين 

بعضهم " حرصا " منه على مظهر الاستقلالية والموضوعية لكي يظل قادرا على النقد وتقديم ما يعتبره إسداء نصح  بشكل ينجو صاحبه من التصنيف السياسي والفكري، يستخدم " تقنياته الخاصة " تلك للتمويه على موقفه السياسي المعلوم من لدن العارفين وإن جهلته العامة.. فتراه دوما يتحاشى في نقده شخص الرئيس، ويحمل المسؤولية في كل شيء لحكومته والمحيطين به لضرب عصفورين بحجر واحد.. عصفور النجاة من التصنيف السياسي وتصنيف نقده في خانة النقد الغرضي انطلاقا من خلفية مناوئة، وعصفور آخر لا يقل أهمية وهو زرع الشكوك بين الرئيس والمحيطين به، ب " تخويفه " منهم والوسوسة له بأنهم يتربصون به ويحفرون له للتخلص منه كما تخلصوا من سابقيه، ومعروفة خطورة ذلك على سير الأمور في أي بلد، عندما يصبح الرئيس لا يثق في أحد من أركان حكمه ومعاونيه..! وإن كانت مراحل التاريخ وحقبه ليست نسخا كربونية من بعضها، فلكل مرحلة ظروفها وقادتها المختلفون من حيث طريقة الحكم والنهج والرؤى والكاريزمات.. بحيث لا يكون بالضرورة ما ينطبق على هذا ينطبق حتميا على ذاك، أو ينتهي نظام حكمه نفس النهاية التي انتهى بها نظام حكم غيره، والتاريخ يعيد نفسه أحيانا لكنه أحيانا لا يعيده..!     

أحد هؤلاء طالعنا بالأمس بمقال تحت عنوان " بل الحل في رحيل حكومة التأزيم والتعطيل "، وعندما يطالعك أحد من صنفناهم أعلاه من المحللين " المستقلين " معلومي الخلفية الفكرية والتوجه السياسي بكلام من هذا القبيل يلقي فيه باللائمة وفي كل صغيرة وكبيرة على الحكومة، فأعلم أنه يوجه كلامه للنظام والرئيس بشكل خاص، ولا تتدرد في أن " تتصرف " في كلامه هذا وتكتب نيابة عنه " بل الحل في رحيل نظام التأزيم والتعطيل ". خصوصا عندما يكون صاحب الكلام صحفيا مخضرما مشهورا لا نشك في إدراكه لما يقوله، وإدراكه بأن نظام حكمنا ليس نظام حكم برلماني التصرف فيه والتسيير والتنفيذ كله للحكومة، ومنصب الرئيس فيه منصب شرفي رمزي.. بل هو نظام رئاسي معظم الصلاحيات فيه بيد رئيس الجمهورية، والحكومة تجتمع أسبوعيا تحت رئاسته، والبيانات تعرض بين يديه، والميزانية يتم إقرارها وتوزيعها وتوجيهها للمشروعات بتوجيهاته وموافقته.  

والغريب أن هؤلاء يقولون لك إن رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز لا يستشير أحدا، وأن الأمر أمره والنهي نهيه والبلد كله وما فيه في قبضته، ثم يأتون ويقولون لك إن كل المصائب في الحكومة..! وأنا هنا لا أدافع عن حكومة لا حالية ولا سابقة ولا لاحقة، إلا أنني وجدت في كلام هذا الكاتب من التناقضات والمغالطات التي أجزم إلى حد اليقين بأنه هو نفسه، وهو يسطر كلامه هذا كان يدركها ولا يفوت عليه أنها مغالطات..! وكما قال هو " وحتى لا يكون هذا الحديث مجرد اتهام فارغ وإلقاء للكلم على عواهنه، لا ضير لو تذكرنا جانبا يسيرا من تاريخ التصعيد والتوتير لهذه الحكومة ". وبنفس المعني، ولكي لا يكون كلامنا نحن أيضا عن المغالطات والتناقضات في هذا المقال مجرد اتهام فارغ وإلقاء للكلم على عواهنه، لا ضير، بل لا مناص من أن نذكر ونناقش هذه المغالطات والتناقضات واحدة واحدة.

يقول الكاتب " فحين أنهى الرئيس محمد ولد عبد العزيز مأموريته الثانية سنة 2014 ( يقصد مأموريته الأولى، ولعله كان يريد أن تكون انتهت آنذاك مللا ) كانت علاقته بمعظم الطيف الإسلامي (السياسي والتقليدي والصوفي) تتراوح بين الممتاز والمقبول ودون ذلك، ومع بداية المأمورية الثانية استلمت الحكومة الحالية مقاليد الأمور، فأجهزت على ذلك، وسلكت بالأوضاع مسارا آخر أسس على مرتكزين اثنين: هما التأزيم والتعطيل، فسارعت منذ الوهلة الأولى إلى تخريب علاقة النظام بالطيف الإسلامي أيا كان مشربه أو منبعه، إذ من المعلوم أن عشية وصول الحكومة الحالية إلى سدة الحكم كان رئيس الجمهورية يستقبل في مكتبه الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ محمد الحسن ولد الددو كاثنين من أبرز رموز علماء التيار الإسلامي في العالم، ويستقبل بنفس الحفاوة الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة "

لاحظوا الإبراز الواضح وبالفم الملآن عند ذكر الشيخين القرضاوي وولد الددو كإثنين من أبرز علماء رموز علماء التيار الإسلامي في العالم، والشيخ عبد الله بن بيه مجردا من رمزية العلم مُعرفا بصفته رئيسا لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة "!

ذكرني هذا بقصة بنفس المفهوم، فتتذكرون أن وفاة العالمين الجليلين الإمام العلامة بداه ولد البصيري، والشيخ العلامة محمد سالم ولد عدود رحمهما الله كانت متقاربة، فلم يفصل بين وفاتهما سوى أسبوع واحد أو عشرة أيام على ما أذكر، وبعد أيام من رحيلهما كنت أتابع حلقة من برنامج ( الشريعة والحياة ) الذي كانت قناة " الجزيرة " تستضيف فيه الشيخ يوسف القرضاوى، فقال له الصحفي مقدم البرنامج : فضيلة الشيخ لدي رسالة من مشاهد موريتاني يقول إنه لم يسمعكم تتحدثون عن عالمين موريتانيين كبيرين رحلا قبل أيام هما الشيخ بداه ولد البصيري، والشيخ محمد سالم ولد عدود.. فقال القرضاوي لم أتحدث عنهما لأنني لا أعرفهما ولا أعرف عنهما شيئا..! فلو كان هاذان البحران من علماء ما يعرف بالتيار الإسلامي والإخوان بالذات، لما كانا مجهولين من هذا الشيخ الرئيس لرابطة طائفة من علماء المسلمين  دون غيرها على أساسي إيديولوجي، وهو نفس المفهوم الذي وصف به أحد قادة هذا التيار في بلادنا علماء البلد من غير المنتمين لهذا التيار بأنهم " ديَّكة " مرة، و" عمائم سوء " مرة، و" أشداقهم محترقة بمرق السلطان " مرة أخرى..!

 أما التناقض، وإن شئتم المغالطة فهي قول الكاتب إن " تخريب " العلاقة بين النظام والطيف الإسلامي كان من فعل الحكومة الحالية، وسنرى أن لا علاقة للحكومة الحالية بهذا " التخريب "، حتى ولو افترضنا أن للحكومات دور في تخريب أو بناء علاقات الرئيس بهذا الطيف أو غيره، فقد كان استقبال الرئيس للشيخ الددو والشيخ القرضاوي يوم 19 ـ 5 ـ 2010، بينما تشكلت واستلمت الحكومة الحالية مهامها يوم 20 ـ 8 ـ 2014، أي بعد أربع سنوات من هذا الاستقبال!! كما كانت بداية توتر العلاقة بين النظام والشيخ الددو وما يعرف بالتيار الإسلامي قبل " الحكومة الحالية " وإبان " الثورات " في المنطقة العربية، والحماس الشديد الذي أظهره هذا التيار في استجلاب تلك " الثورات " لموريتانيا، وفتاوي الشيخ الددو الداعمة لذلك الحراك ومنها فتواه بأنه من الواجب عل المسلم كشف صدره للرصاص في سبيل كرامته.. ومعلوم أنه في مجتمع مسلم 100% كمجتمعنا سيكون الكاشف فيه عن صدره للرصاص مسلما، والمصوب للرصاص صوب ذلك الصدر أيضا مسلما..!

وقد أزدادت تلك العلاقة توترا على إثر موقف قادة " تواصل " من إصابة الرئيس واليمين المشهورة لرئيس حزبهم محمد جميل منصور، لتأتي حادثة إشاعة تمزيق المصحف في أحد مساجد مقاطعة تيارت، وركوب هذا التيار لموجة الغضب الشعبي الذي رافق تلك الشائعة، ودعوته لاقتحام القصر الرئاسي ليلا والمحققون لا يزالون في مكان الواقعة يحققون، وقال وزير الاتصال حينها سيدى محمد ولد محم " إن الجماعة يريدون منا أن نحقق في الحادثة، ونبحث عن الفاعل المفترض، ونمسك به، ونحقق معه، ونقدمه للعدالة، ونحاكمه، ونحكم عليه وذلك كله خلال ساعة واحدة وإلا سيشعلون البلد.." !! ثم تحريضهم في الصباح الموالي على أعمال التخريب للمتلكات العامة والخاصة بدعوى، الانتقام كما يقولون، للمصحف من فاعل لا يزال مجهولا، مع دعاية توحي بأن الدولة هي من تعمدت تمزيق المصحف! مما أعقبه مباشرة حل جمعية " المستقبل " المملوكة للشيخ الددو، وسحب الأمتياز الذي كان يحظى به من خلال استخدام قاعة الشرف بمطار نواكشوط، ووضع الدولة يدها على المستوصف التابع لحزب " تواصل " في مقاطعة توجونين، ومركز تكويني آخر تابع له في حي " تن أسويلم ".

وهكذا نرى أن سوء العلاقة بين النظام من جهة وبين الشيخ الددو وما يعرف بالتيار الإسلامي من جهة أخرى، الذي يراد له أن يكون وليد اليوم، وأنه ردة فعل على نتائج حزب " تواصل " في انتخابات سبتمبر ليس كذلك بل هو توتر بل تعارض في المواقف مزمن وقديم، كما نرى أيضا أن لا علاقة ل " حكومة التأزيم والتعطيل الحالية " المطلوب رحيلها بهذا التوتر، لأن محاولة هذا التيار استجلاب " الثورات " للساحة الموريتانية كان سنة 2011، وإصابة الرئيس كانت سنة 2012، وأحداث إشاعة تمزيق المصحف كانت يوم 3 ـ 3 ـ 2014، وكل هذه التواريخ كانت قبل استلام الحكومة الحالية لمهامها يوم 20 ـ 8 ـ 2014.

 يتابع الكاتب " ويقول كما يستقبل، أي الرئيس، بنفس الحفاوة رابطبة الإيمة والعلماء الموريتانيين، فضلا عن علاقة ممتازة مع شيوخ الصوفية مثل الشيخ محمدو ولد الشخ حماه الله وغيره ". وستلاحظون أن الكاتب تجاهل تماما علاقة الرئيس الجيدة بتيار إسلامي آخر واسع الانتشار في موريتانيا هو جماعة الدعوة والتبليغ المنافس الأبرز في النهج ومنهاج الدعوة لجماعة الإخوان، واستقبالاته الكثيرة لدعاتها كلما نظموا مؤتمرهم السنوي هنا في موريتانيا، ويروي أحد هؤلاء الضيوف أنه في أحد لقاءاتهم برئيس الجمهورية مازحوه طالبين منه الخروج معهم كعادتهم مع كل من يلتقونه، وأن الرئيس قال لهم إنه خلال لقاءاته بالمسؤولين الغربيين كان يوضح لهم دائما حقيقة هذه الجماعة والفرق بينهما والتيارات الإسلامية الأخرى حيث يصنف الغرب كل هذه التيارات في خانة واحدة، فقالوا له إنهم يأخذون هذه الشهادة مقابل خروجه معهم..

 ويعتبر الشيخ محمد ولد سيدي يحى من أقرب علماء البلد لهذه الجماعة، وهو العالم الجليل والشيخ الكبير الذي يكرس كل وقته للدعوة والتبليغ في الأوساط والطبقات الاجتماعية التي هي بحاجة ماسة لذلك، لا يخاف في ذلك لومة لائم ولا يريد به غاية ولا حاجة من حاجات الدنيا، وليس من علماء الشاشات ولا الظهور ولا الأسفار، ولا أعتقد أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز بحاجة لشهادة على خدمته للدين الإسلامي، وفتحه لأبواب الدعوة إلى الله، وتشجيعه ودعمه لذلك لشهادة بعد شهادة هذا الشيخ الذي يقول في أحد تسجيلاته المنتشرة والمحفوظة إنه على الموريتانيين حمد الله وشكره على هذا العهد الذي فتحت فيه أبواب الدعوة إلى الله، وأصبح فيه الدعاة يجوبون أصقاع البلاد دون التعرض لهم، فهذه، يقول، نعمة عظيمة على الموريتانيين أن يحمدوا الله عليها ويسألوه دوامها. ولكن هناك من لا يتعبر غير طريقته ومنهاجه في الدعوة دعوة..!!

 يتابع الكاتب في تحميله الحكومة الحالية ( النظام ) المسؤولية في سوء علاقة النظام بمشايخ الطرق الصوفية الذين قال إن من بينهم الشيخ محمدو ولد الشيخ حماه الله وغيره ( لم يذكر لنا شيخا واحدا من ذلك الغير رغم تعدد مشايخ الصوفية في بلادنا )، لكن الكل يعرف أن الخلاف بين نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز والشيخ محمدو ولد الشيخ حماه الله كان على إثر موقف الشيخ في نيابيات 2013 من مرشحي حزب الاتحاد ودعمه لمرشحي المعارضة، ونعود ونكرر أن الحكومة الحالية تشكلت واستلمت مهامها يوم 20 ـ 8 ـ 2014، أي بعد عشرة أشهر من تنظيم نيابيات نوفمير 2013 والموقف الذي أتخذه الشيخ في تلك الانتخابات، وبالتالي فقد كان ذلك الخلاف سابقا للحكومة الحالية..!!

 والخلاف بين النظام وهذا الشيخ لم يكن على أساس ديني ولا دعوي وإنما كان خلافا سياسيا، والعالم أو الشيخ حيث هو عندما يدخل معترك السياسة فطبيعي أن يجري عليه ما يجرى على غيره من تجاذباتها وانعكاسات المواقف فيها، والشيخ محمدو ولد الشيخ حماه الله ليس الشيخ الوحيد الذي دخل معترك السياسة في بلادنا، وإن كان اقتصر في دخوله لذلك المعترك على دعم من يراه من المرشحين المحليين، لكنه لم يحضر قط مؤتمر حزب سياسي معروف كما يفعل شيخ آخر تتداخل وتتماهى علاقته بذلك الحزب إلى درجة أضطر معها مرارا، وضطر معه الحزب لنفي تلك العلاقة التي عليها أكثر من دليل، وتزداد تلك الأدلة يوم بعد يوم!

 لا يسلم كذلك العلامة عبد الله ولد بيه من أفاعيل " الحكومة الحالية " التي خربت، حسب الكاتب، علاقته هو الآخر بالنظام " والتى يقول إنها تمر اليوم بأسوء مراحلها، وأن الوظائف القليلة التي " قيل " إن أصحابها ارتقوا لها تلبية لرغبة الشيخ أو مجاملة له قد أخليت منهم، بما في ذلك نجله الدكتور السعد ولد بيه ".

 ليس العلامة الشيخ عبد الله ولد بيه كثير الإقامة في موريتانيا بحكم مشاغله ومهامه في مركزه الدولي الذي يرأسه، وفي المناسبات التي يزور فيها موريتانيا لحضور مؤتمر دولي مقام هنا بنواكشوط، يكون أول نشاط يقوم به بعد افتتاح المؤتمر هو الاستقبال من طرف رئيس الجمهورية في القصر الرئاسي، وكان آخر تلك الاستقبالات استقباله من طرف الرئيس بمناسبة قدومه لموريتانيا للإشراف على مؤتمر نواكشوط الإسلامي الدولي فبراير 2018، والكاتب لم يفصل لنا أوجه سوء العلاقة تلك، ولم يذكر لنا أيضا من أسماء الموظفين الذين تم توظيفهم باقتراح من الشيخ وأقيلوا من وظائفهم بسبب سوء علاقته بالرئيس سوى نجله الدكتور السعد ولد بيه الذي أقيل من وظيفته الدبلوماسية في مسقط سنة 2017 على أثر مقال منشور له عن التعديلات الدستورية صنفته الخارجية الموريتانية مخالفا لواجب التحفظ المطلوب في من يتولى منصبا دبلوماسيا.. ومهما يكن فإن هذه الإقالة، إذا كانت بسبب سوء علاقة الشيخ بالنظام، فإنه أعقبها استقبال الشيخ من طرف الرئيس في القصر الرئاسي ولم يصدر أيضا عن الشيخ أي شيء يوحي بسوء علاقته بالرئيس عند خروجه وتصريحه عقب ذلك الاستقبال، بل أثنى كعادته على الرئيس ودوره الإسلامي وتقاطعه معه في أهداف المزكز الذي يرأسه، وعلينا انتظار مناسبة أو زيارة قادمة له لموريتانيا نحكم من خلالها على علاقته بالرئيس.

كان ذلك عن " التأزيم " الذي تقوم به " حكومة التأزيم والتعطيل " التي يعتبر الكاتب الحل في رحيلها، وسنتظرق في الجزء (2) بحول الله لجانب " التعطيل "..

يتواصل..

36224642    

30. سبتمبر 2018 - 12:37

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا