غالبا ما تلجأ قوى النكوص والردة الرجعية في المجتمع أثناء نزالها الخاسر مع التاريخ إلى أساليب التقية والمكر والتلون الحرباوي والتظاهر بالتقدم والخير فترفع رايات الثورة والحرية والشعب والدين والقيم! إلا أنها سرعان ما تتعرى وتظهر على حقيقتها إذا حمي الوطيس فتَفْجُر وتقذف وتسب وتُخَوِّن وتُسقط ما تعرفه في نفسها على مخالفيها.. إلى غير ذلك من أشكال العنف اللفظي والإرهاب الفكري والابتزاز بدل مقارعة الحجة بالحجة والمجادلة بالتي هي أحسن. وهي ترمي من وراء ذلك إلى التضليل والتمويه حتى لا تظهر طبيعتها الرجعية، وإلى ترهيب المتكلمين والمصلحين حتى لا يعبروا بحرية عن آرائهم النيرة التي تلهم المجتمع وتحدو ركب الحضارة، أو على الأقل إلى استدراجهم إلى فتنة المماحكة والجدل البيزنطي العقيم على أرضيتها الرخوة المتحركة وبأسلوبها السوقي الهابط!
أما نحن فقد كنا - وما نزال، وسنظل ما بقينا- متكلمين دفاعا عن الحق والناس والتاريخ وعن مستقبل أجيالنا؛ نصدع بما يمليه الضمير الحر، وندعو بالتي هي أحسن، ولا يثنينا خوف أو طمع عن الهدف الأسمى: نرقب حركة التيار الاجتماعي المتعرجة بمجهر البحث والعلم الاجتماعي والتجربة ولسنا هواة، ونسايرها نحدو ركبها حينا، ونمشي في وسطه أحيانا، وقد نكون في مؤخرته تارة أخرى نحمي الذمار ونلوي على المتعذرين.. ولكننا لا نتخلف عن ركب التاريخ أبدا!
وسنسوق بعض أمثلة ذلك:
أولا: 1962 ـ 1978
عندما كان استقلال بلادنا شكليا في بداية الستينيات، واقتصادنا نهبا، ولغتنا الوطنية ولغة ديننا موءودة ومغيبة.. ناهيك عن حالة لغاتنا الوطنية الأخرى، وغالبية شعبنا بداة خارج مجال الفعل الحضاري، والرق منتشرا على نطاق واسع، وسكان مدينة انواكشوط لا يبلغون الألفين إلا بالكاد، والأواصر القومية والتحررية منبتة ومأساة فلسطين مجهولة، والبنى التحتية منعدمة.. صدعنا بمعارضة ذلك الوضع بما لدينا من قوة، وضحينا بالغالي والنفيس من أجل تغييره، وتعرضنا لأبشع أنواع التثبيط والقمع والتعذيب طيلة سبع عجاف اندلعت خلالها شرارة دعوتنا في الشباب والشعب اندلاع النار في الهشيم: (موريتانيا الفتاة، صيحة المظلوم، الجمعيات الثورية، والمناشير والأناشيد الوطنية والمظاهرات والإضرابات.. الخ). ولم تثننا أو تحرفنا حملات يمين النظام المغرضة التي جرد لها ما يملك من وسائل وجند فيها الإذاعة والصحافة والمسجد والملك همام على جلالته! بل تداعى الأحرار من كل حدب وصوب، وعَضُّوا على قضية الوطن بالنواجذ حتى تكلل نضالنا بالنصر، فتمت مراجعة الاتفاقيات الاستعمارية المذلة مع فرنسا، وأنشئت الأوقية، ورسمت اللغة العربية وتقررت كتابة اللغات الوطنية الأخرى، وأممت "ميفرما" وغيرها، ووزعت القطع الأرضية على ساكنة الكبات، وشق طريق الأمل، وتعهدت الصين الشعبية ببناء ميناء انواكشوط الدولي وانتمت بلادنا إلى الجامعة العربية واعترفت بفلسطين وبحركات التحرر الإفريقية والآسيوية ودعمتها، وقطعت علاقاتها مع الولايات المتحدة وبريطانيا، كما دعمت المجهود الحربي العربي وطردت إسرائيل صاغرة من إفريقيا وأصدرت الميثاق الوطني التقدمي الذي يلغي استغلال الإنسان للإنسان.. الخ!
لم نكن وحدنا يومئذ، ولا ينبغي لنا أن نكون وحدنا؛ بل تبنى يومها جناح معتبر ومنفتح ووطني في السلطة بقيادة الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله سياسة الوحدة الوطنية التي نادينا بها في منتصف سنة 1973على أنقاض سياسة "النضال المسلح" المتهورة التي نادى بها بعض؛ وقام ذلك الجناح تحت سقف نضالنا، وفي تعاون معنا في بعض الأحيان، بإنجاز تلك الإصلاحات الوطنية والاجتماعية التي هي جوهر برنامج الجبهة الوطنية التي دعونا إليها، فتحالفنا معه وانتمينا إلى حزبه، ولم نتخل عنه رغم الأعاصير التي زلزلت استقرار المنطقة؛ وخاصة عندما أقدم بعض الشباب الوصوليين الهامشيين على استثمار أوضاع الحرب الصعبة في مآرب شخصية ضيقة بغية التسلق إلى قمة الهرم الاجتماعي وشاركوا في الإطاحة بنظامنا الوطني.
لقد نددنا بالانقلاب وعارضناه وبقينا أوفياء للعهد الوطني وسياساته النيرة رغم ما عانيناه في ذلك من اضطهاد وحبس ونفي وحرمان... قال لي الصحفي "بن سيموه" من إذاعة فرنسا الدولية وهو يحاورني يوم وفاة الرئيس المختار رحمه الله، وقد أثنيت عليه ووصفته بحق بأبي الأمة: "ولكنه كان أبا قاسيا، لقد سجنكم وعذبكم ونفاكم.." الخ، فقلت له: "وما من أب إلا ويقسو حينا على أبنائه! ولكنّ أبا الأمة الموريتانية كان أقسى على الاستعمار والصهيونية، وينهج سبيل الحوار والتشاور، ورجع مرارا إلى الحق فتبنى رأي إخوته وأبنائه في تدبير أغلب شؤون الأسرة الموريتانية".
(حتى لا نركع مرة أخرى ص 53).