في تعليق وردني من أحد الأصدقاء على فيسبوك، حول تدوينتي ليلة أمس لأبيات للحلاج، ذكر بأن مطالعة ما سطر عن من طالتهم تهم الشطح في الفهم دون إصدار حكم على مدى عصور مختلفة وفي مجالات معرفية متعددة، تبرز عاملا مشتركا بينهم ألا وهو التبحر في العلوم، دون أن يعني ذلك تبريرا لمذاهبهم. ثم ختم صديقي الأستاذ خالد الداه، تعليقه قائلا بأن السؤال الذي يطرح نفسه بكل وجاهة هو أين يقف دعاة التنوير الجدد من هؤلاء؟
أعتقد بأن ما ذكره الصديق عن مصير الكثير ممن طالتهم تهم الشطح أو الزندقة، بل وحتى السحر والشعوذة، عبر تاريخ الحضارة الإسلامية، هو صحيح. وقد تم ارتكاب أغلب تلك الممارسات الإقصائية المتفلتة من المسؤولية الأخلاقية والروحية والإنسانية بإسم أيديولوجيا "الفرقة الناجية" التي ظلت مقولة يشرع من خلالها اضطهاد الموقف المخالف أو ما اصطلح على تسميته حديثا في أدبيات الدراسات الإنسانية بـ "الإختلاف".
لكن الوقوف بشيء من التأمل النقدي على تاريخ الحضارة الإسلامية، ذاك التاريخ المجيد والمضطرب والمتناقض في ذات الوقت، يوضح أننا بقينا عبر التاريخ، أمة غارقة في أوهامها وعقدها، تتلوَّن فيها "الفرقة الناجية" بألوان السياسة وتحتمي بقوتها، من أجل إعادة إنتاج أنظمة سلطوية، مستبدة باسم الدين أو الخلافة أو الإمامة، أو المرجعية، أو المذهب، إلخ..
وهكذا، عبر مختلف حقب تاريخ الحضارة الإسلامية وتراثها الثقافي والفكري الهائل الثراء، لم تتمكن النخب من تدبير مسألة "الإختلاف" وبقي احتكار المجال العمومي أو الدولتي من طرف "الفرقة الناجية" يستغل نفس آليات الإقصاء والتهميش والإلغاء ضد "الآخر"، بتهم المروق والزندقة، والتكفير، بل والشعوذة والسحر، إلخ... بشكل يُكسب الطرف المتحكم "الشرعية" الدينية والدوغمائية المعرفية إزاء منافسيه أو معارضيه بما يمكنه من إقصائهم وإلغائهم بكل بساطة.
وقد كشف بعض دعاة التنوير الجدد الذين يمكن اعتبارهم استمرارا للتيارات الفكرية النقدية التي اضطهدت في الماضي وجرى إقصاؤها وتهميشها، أو على الأقل في جزء كبير منهم، عن كيفية اشتغال تلك الممارسات الإقصائية المتفلتة التي كانت مسلطة لقمع وإلغاء كل ميل إلى الإختلاف في التفكير أو في الرأي، من خلال الكثير من الدراسات والأبحاث ذات الصبغة العلمية المستلهمة من التطور الأبستيمولوجي الحاصل في مجال العلوم الإنسانية، خاصة في الأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس، والألسنية، وغيرها من المعارف العلمية الحديثة والمعاصرة.
وفي هذا الصدد يمكن الرجوع إلى مؤلفات مفكرين عمالقة مثل زكي نجيب محمود، وعلي الوردي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وعبد الله العروي، وحسن حنفي، ومحمد عمارة، وأدوارد سعيد، ومحمد ولد مولود ولد داداه، وهشام جعيط، وحسن الترابي، والطيب تيزيني، وعبد الوهاب المسيري، ومحمود أمين العالم، وغيرهم كثيرون..
بشكل عام وبدون الدخول في التفاصيل، كشفت تلك الدراسات حول الحضارة والتراث الفكري في التاريخ الإسلامي عن كيفية اشتغال "ميكانيزمات" الإقصاء من خلال جدلية عاملين أساسيين هما "المعطى الديني" الذي يتمثل في محاولة احتكار تفسير وتأويل النصوص المقدسة أي القرآن والسنة، مع ما يصاحب ذلك من محاولة مستميتة دائما لفرض "الدوغمائية" في التفسير، وهي "وثوقية" أو "يقينية" تحاول أن تتماهى مع الحق والمطلق، ولا يرقى إليها الشك، و من ثم، يتم إرهاب وإقصاء كل من لا يقبل بحتميتها.
أما العامل الثاني، فيتمثل في "المعطى السياسي" الذي يُعدُّ "العامل الحاسم" والأكثر إرباكا في تحليل تاريخ المسلمين. وقد دأب الخطاب الرسمي أو السلطوي على إلباس هذا العامل دائما "لبوس الدين" وإضفاء الشرعية الدينية عليه، أو خلعها عنه حسب مقتضيات غالبا ما تمليها المصالح والتوجهات والتموقعات السياسية الدنيوية، وليست بالضرورة متفقة مع نص أو روح النصوص المقدسة..
ولا شك بأن استعراض تاريخ الحضارة الإسلامية يؤكد جدلية ظاهرة التلاقي والتلاغي بين ما هو ديني وما هو سياسي في مجال تدبير أمور السلطة والحكم، دون ما إعطاء اهتمام كبير للرأي العام أو لجمهور المسلمين أو بالأحرى "للمواطنين" المسلمين الذي ظل ينظر إليهم كمجرد "رعايا" لا إرادة لهم ولا يتمتعون بأي حق في الاختيار، بل يتم عادة التعويل على تجييش مشاعر العامة أو الدهماء، والتلاعب بتشكيل قناعاتهم من خلال الخطب والفتاوى والتوجيهات التي ما تزال تأخذ من طرفهم -حتى في أيامنا هذه- على أنها مطابقة لفحوى النصوص المقدسة..
وهذه ظاهرة أنتربولوجية تستحق الدراسة.. حيث ما نشاهده في هذه الأيام في بلادنا ليس مجرد تجل لظاهرة التلاقي والتلاغي بين ما هو ديني وما هو سياسي، ولو تحت الغطاء المزركش للديمقراطية والانتخابات، بل هو إلى حد كبير صراع سياسي بامتياز من أجل كسر إحتكار تفسير المقدس داخل دائرة "الشيء الديني" نفسه.. وبين كلا الطرفين المتصارعين تنمو "أبواق الإعلام" والزبونيات المختلفة من أجل ترسيخ الهيمنة، وإقصاء الآخر "المارق"، بل لاختزال الدين والشعب والوطن في مقولة "قبل ديمقراطية" تؤسس لفرض "دوغمائية" جديدة تكون مطية "للفرقة الناجية" التي ربما تفوز في نهاية هذا الصراع.
وبالعودة إلى تدوينتي ليلة أمس لأبيات للحلاج، لا يساورني شك في أن أبا المغيث الحسين بن منصور، ذلك الشاعر والمتصوف الذي نال شهرةً واسعةً وأتباعًا كُثر بوصفه معلمًا روحيا قبل أن يتورط بالدخول في معترك السياسة في البلاط العباسي، قد أُعدم بعد التضييق عليه بتهمٍ دينيةٍ وسياسية في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله.. وهي نفس الممارسات الاستبدادية والإقصائية التي تعرض لها كثير من العلماء والفقهاء بسبب التداخل بين آرائهم مواقفهم مع "البراديغم" السياسي السائد.. وفي هذا السياق، لا ننسى محنة الأئمة مالك والشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وغيرهم..