حقيقة، كنا قبل بث برنامج " الاتجاه المعاكس " الذي بثته قناة الجزيرة البارحة قلقين من انعكاس اعتذار الضيف الثاني للبرنامج على قيمته ومستواه، كأي برنامج حواري يفقد جزء كبيرا ليس من تشويقه فحسب، بل من مصداقيته وموضوعيته في حال غياب وجهة النظر الأخرى فيه، خصوصا بالنسبة لبرنامج على قناة يدور الكثير من القصص حول انتقائها لمواضيع برامجها من حيث خدمتها للخط والبلد الذي تبث منه القناة، كتلك النسب الموجهة التي يعلن عنها مقدمه قبل بدئه، والمتعلقة بتصويت المشاهدين وآرائهم حول الموضوع الذي سيتبارى فيه الضيفان، وهي النسبة التي ظلت دوما تدور بين 85 و 90% لصالح ما تريد القناة إيصاله للمشاهد، و 15 إلى 10% لصالح التوجه المضاد كهامش متروك لإضفاء نوع من الموضوعية..
وقد تأسفت على أنني لم أتابع البرنامج كاملا لأنني لم كن أنوي التعليق عليه أو كتابة ملاحظاتي على ما دار فيه، حيث لم اتابعه على التلفزيون وإنما في راديو الهاتف، لأنني ساعة بثه كنت أمارس رياضة المشي في ساحة المطار القديم، وعندما تابعت بدايته، أو نصف ساعة منه على الأصح، زال قلقي مما كنت أتوقعه من أثر سلبي لاعتذار الدكتور الكنتي عن المشاركة فيه للسبب الذي شرحه في تدوينة له ساعات قبل بدء بث البرنامج فسحبت السماعة من أذني وتابعت رياضتي.. نعم زال قلقي لأن تغيب الضيف الآخر أظهر هذا البرنامج وهذه القناة على حقيقتهما من جديد بالنسبة لمن لم يكونوا قد اطلعوا على ذلك خلال مسار هذه القناة..
فقد كان البرنامج، أو ما استمعت إليه منه على الأقل، مجرد شهادة على ما يعرفه الكثيرون من ترتيب القناة لبرامجها مع ضيوفها حسب علاقتها السياسية بهم أو بتوجاهتم، ليكون كل شيء جاهزا أمام الضيف المتقاطع مع القناة في سياستها وتوجهاتها، حتى أن أحد المدونين شبه الدكتور الكنتي في هذا البرنامج قبل اعتذاره، مشفقا عليه، بالفريق الرياضي الذي يلعب خارج بلده وجمهوره، مقابل فريق آخر يلعب أرضيته وبين جماهيره..!!
1 ـ كان واضحا هدف مقدم البرنامج من استغلال برنامجه للمس من النظام الموريتاني ورئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز ولأسباب مفهومة كمقدم لبرنامج على قناة في بلد تمر علاقات موريتانيا به بقطيعة دبلوماسية، وبنفس الغمز واللمز والتشويه المتبع مع قادة البلدان الأخرى في المنطقة التي تمر معه علاقاتها بنفس الوضعية، فركز مرارا على وصف الرئيس بالجنرال مدركا أن ذلك يصادف هوى في نفس الضيف وفي نفوس من هم خلف القناة.
2 ـ كان واضحا أيضا، وهذا ليس جديدا في برنامج الاتجاه المعاكس، الإسناد المقدم للضيف المقرب من القناة وبلد بثها، من خلال أخذ دور الشارح والموضح للمشاهدين ما يريد هذا الضيف قوله، وتذكيره بما لم يتذكره من تاريخ و" أخطاء وعيوب " حكومة أو نظام بلده أو البلد الذي هو على خلاف معه، فلم يغب أو يضعف ذلك الإسناد حتى مع غياب الضيف الآخر..
3 ـ لا أعرف كم بقي ممن كانوا مبهورين بقناة فضائية يحسبونها محترمة ومهنية عندما يسمعون مقدم برنامج فيها وهو يقول بلغة سوقية إن ضيفه الآخر " هرب "! بينما المتعارف عليه في مثل هذه الحالات التي يتغيب فيها أحد الضيوف عن برنامج هو التعبير عن ذلك بأسلوب مناسب والقول إنه اعتذر.. تماما مثل الطريقة التي عبر بها الضيف عن عدوله عن المشاركة وهي الاعتذار، خاصة وأن الدكتور الكنتي ما وضع قدمه في الاستديو ثم غادره، ولم يعد أيضا إلى بلاده بل كان وقت بث البرنامج في فندق إقامته حتى يتم وصفه بأنه "هرب "!
4 ـ كان واضحا أيضا تعمد مقدم البرنامج تجاهل والتعتيم على سبب اعتذار الدكتور الكنتي عن المشاركة في البرنامج الذي قال لمخرجه إنه لن يشارك فيه إلا إذا كان مباشرا، ونشر تدوينة بذلك الخصوص لا شك أن مقدم البرنامج اطلع عليها، وذلك تهربا من إحراج السبب الحقيقي لاعتذار الكنتي الذي يبدو أن القناة لا تريد كشفه.
5 ـ أصبح مقدم البرنامج، وبقدرة قادر، مديرا في ديوان الرئاسة الموريتانية وزعم أن الكنتي " هرب " لأن أوامر من الرئيس الموريتاني وصلته بعدم المشاركة في البرنامج، ومضحك حقيقة أن يكون الدكتور الكنتي حزم أمتعته، وقطع عشرة آلاف كيلومتر جوا للمشاركة في برنامج موضوعه وضيفه الآخر معلومين، والحكومة الموريتانية هي من انتدبته لهذه المهمة بما في ذلك الرئيس، ليصدر له الرئيس الأوامر بعدم المشاركة في البرنامج، ومضحك أكثر أن يزعم مقدم البرنامج ما لا يدري عنه شيئا ويجعل منه حقيقة!
6 ـ أراد مقدم البرنامج إزالة الحرج الذي سببته له وجاهة اعتذار الدكتور الكنتي من عدم علمه بأن البرنامج مسجلا وليس مباشرا، فقال إنه اتصل بالكثير من المسؤولين الموريتانيين لتعويض الكنتي فاعتذروا كلهم، ومن عادة مقدم هذا البرنامج، في الحلقات السابقة من برنامجه ذكر من اتصل بهم لأخذ رأيهم في موقف فاعتذروا، لكنه لم يذكر أسما واحد لمن زعم أنه اتصل بهم من المسؤولين الموريتانيين.. لم يحصل ذلك الاتصال أصلا؟! الاحتمال وارد..
كان ذلك عن الدور الذي لعبه مقدم البرنامج خلال هذه الحلقة، أما عن الضيف فلم يقدم في هذه الحلقة إلا ما كنا نسمعه عنده وعند جماعته السياسية هنا على أرض الوطن، وإذا كان هناك جديد في كلامه فبالتأكيد من سيكتشونه، كمعلومات جديدة، هم من تابعوا هذا البرنامج من مشاهدي بلدان أخرى..
ولأنني كما قلت توقفت عن متابعة بقية الحلقة مكتفيا بما جاء في بدايتها، فسأكتفي بالتعليق على ما تابتعه من أقوال ضيفها أحمدو ولد الوديعة، ولن أنتظر إعادتها لمشاهدتها كاملة ليقيني أن ما سيأتي في نهايتها هو امتداد لما جاء في بدايتها من مغالطات وكلام معهود.. ومما تابعته منها واردت التعليق عليه بعض الدعاية المألوفة عندنا هنا والتي يطلقها أصحابها وهم أول من يدرك تهافتها، فما يلبثوا أن يعترفوا بنقيضها، ومن ذلك مثلا:
1 ـ بعد تقديم صورة مأساوية وسوداوية للأوضاع في البلاد لم يجد الضيف بدا من الاعتراف بأن لهذا النظام إنجازات قال إنه لا يستطيع إنكارها، لكنه لم يكن مستعدا للاعتراف بها ما دام الجو خاليا له ممن سيتحدث عن تلك الإنجازات لولا أن متدخلا موريتانيا تدخل معددا لها..!
2 ـ في معرض حديثه عن " الوضعية المأساوية " لقطاع الصحة في بلادنا، وبعد إسناد له من فيصل القاسم عن طريق مقارنة المستشفيات الموريتانية بمستشفى ذائع الصيت في أمريكا مثلا، ركز ولد الوديعة على حالة النائب الشيخ ولد بايه الذي سافر للعلاج من حادثه في فرنسا كمثال على غياب العلاجات في المستشفيات الموريتانية.. لكنه لا يعلم، أو ربما يعلم لكنه يتجاهل أن الإمارة التي يجلس في استديو لقناتها والقابعة على آبار النفط والغاز كل أمرائها ظلوا يتعالجون خارج بلدهم، وأن أميرها الجد خليفة بن حمد آل ثاني توفي وهو يتعالج في بريطانيا، وأميرها الأب حمد بن خليفة آل ثاني سافر لإجراء عملية شفط للدهون في بريطانيا أيضا، ثم عاد إليها بعد ذلك للعلاج من كسر في فخذه..
وأن كل ملوك وأمراء الخليج كانوا ولا يزالون يتعالجون في المستشفيات البريطانية والأمريكية والألمانية، وأن الرئيس الجزائري بوتفليقة كرئيس لأغنى بلد في شمال إفريقيا يتردد الآن على فرنسا للعلاج من جلطته، وأن الملك محمد السادس الذي يتعالج الموريتانيون في مستشفيات بلاده، أجرى قبل أشهر عملية لقرنية العين في باريس وليس في مستشفى مغربي، وهكذا كل قادة ومسؤولوا العالم الثالث يتعالجون في المستشفيات الغربية، وطبيعي أن يسافر مسؤول موريتاني مؤمن لصحته للعلاج في فرنسا، ولكن ذلك لا يعني أن التغطية الصحية وتطور العلاجات في بلادنا لم يشهدا تحسنا ملحوظا على يد هذا النظام وهو ما نقوله ولا ندعي غيره.
3 ـ لما ذكر مقدم البرنامج للضيف لقب رئيس العمل الإسلامي الذي أطلقه بعض علماء البلد على الرئيس محمد ولد عبد العزيز معددا له إنجازاته في هذا المجال، لم يجد مما ينفي به أحقية الرجل بهذا اللقب سوى قراره تحويل العطلة الأسبوعية من الجمعة إلي السبت الذي لم يكن هو القرار الأول من نوعه في تاريخ البلاد، وهو قرار فرضته وضعية جديدة أصبحت موريتانيا فيها مرتبطة أكثر بالمؤسسات المالية العالمية من بنوك وهيئات مالية، وهو بالتالي قرار إقتصادي بحت، و لكن الدعاية والتهويل لا يهملان أو يترفعان عن شيئ!
4 ـ حاول الضيف وصف الحريات في البلد بالكارثية، لكن مقدم البرنامج لم يستطع حجب المعلومات التي ظلت تتكرر على مسامعه على مدى خمس سنوات متتالية كانت موريتانيا خلالها حاجزة للمرتبة الأولى عربيا في مجال حرية التعبير، ومقدم البرنامج إعلامي لا يمكن أن يفوته ذلك، حتى ولو أراد الضيف استغلال غياب الطرف الآخر وحاول تفويته، ليعود ويقول أنا لا أستطيع أن أنكر أنه في موريتانيا حرية تعبير كبيرة ولكن..!
هذا طبعا ليس كل شيء عن هذه المغالطات والدعاية والتخبط التي لم تشفع لصاحبها الأريحية التي وجد نفسه فيها بتغيب الضيف الممثل لوجهة النظر الأخرى، فما علقت إلا على ما تابعته من البرنامج وقد فاتني منه الكثير.. وعليه فأنا من الذين يرون أن الدكتور الكنتي ضرب هذا البرنامج مرتين، مرة بكشف طبيعته المتنقلة بين المباشرة والتسجيل حسب المزاج السياسي للقناة ومن خلفها، ومرة عندما ترك كامل وقت البرنامج لضيفه دون أن يأتي بجديد..!
وعلى أية حال فإن برنامج " الاتجاه المعاكس " حول هذه القضية لم ينته، فكلام ولد الوديعة مسجل والكنتي قلمه سيال..