ينص الدستور الموريتاني - كغيره من الدساتير-، وكذلك القوانين المعمول بها على أن جميع المواطنين متساوون في الحقوق، والواجبات، وتنص أبجديات الديمقراطية، والعدالة على مبدأ "تكافؤ الفرص" في الولوج للمناصب العامة في الدولة، والاستفادة من المزايا الاقتصادية، وفرص التحصيل المالي، والعلمي، غير أن جميع الأنظمة التي حكمت موريتانيا منذ الاستقلال إلى اليوم ظلت تحكم البلد بناء على توازنات قبلية، وجهوية، وعرقية بالغة التعقيد، والحساسية، وإذا اختلت تلك التوازنات حدثت هزات كبيرة أحيانا تنعكس على أمن البلد، بل وعلى استقرار النظام وديمومته، حتى إن الموريتانيين يعرفون أن هناك قطاعات حكومية، ووظائف ظلت شبه محتكرة على جهة، أو قبيلة، أو حتى أسرة معينة منذ الاستقلال، وقد خلق هذا الأسلوب، أو العرف المعمول به في موريتانيا حالة من المحاصصة في الدولة، مخالفة للقانون، والدستور، لكنها مطبقة ومسكوت عنها، ويتم الحديث عنها فقط في الصالونات، وخلف الأبواب الموصدة.
تراعي الأنظمة المتعاقبة في موريتانيا تلك التوازنات القبلية، والجهوية، والعرقية في تعيينات القطاعات الحكومية، والجيش، والأجهزة الأمنية، وقد تنامى الحديث عن احترام هذه المحاصصة هذه الأيام، مع توقع تعيين وزير أول جديد، وانتخاب رئيس للبرلمان، سيكون هو رئيس الجمهورية بموجب الدستور في حال تغيب الرئيس لسبب ما، وإذا انطلقنا من الفرضية التي يؤكدها الجميع اليوم، وهي انتخاب نائب ازويرات الشيخ ولد بايه رئيسا للبرلمان، فإن ذلك يقتضي - وفقا للمحاصصة العرقية، والجهوية- تعيين وزير أول من شريحة مغايرة لشريحة ولد بايه، ومن المناطق الشرقية ذات الكثافة السكانية العالية في البلد، هذا مع استحضار أن منصب رئيس الجمعية الوطنية ظل منذ إنشائها ممنوحا للولايات الكبيرة ديمغرافيا (الحوضين، واترارزه)، ومع ذلك فإن أي نائب في الجمعية الوطنية له الحق في الترشح لرئاستها بغض النظر عن دائرته التي دخل منها البرلمان، مع أن الأنظمة تفضل عادة منح رئاسة البرلمان لنائب من لائحة انواكشوط، أو اللائحة الوطنية، وليس لنائب من دائرة محلية، وسيتم خرق هذا العرف كذلك في حال ترؤس ولد بايه للبرلمان.
يمنح الدستور الموريتاني لرئيس الجمهورية صلاحية تعيين، وإقالة كبار الموظفين في الدولة، هذا لا جدال فيه، ومع ذلك فإن رؤساء الجمهورية ظلوا دائما يمارسون هذا الحق وفقا لتلك الاعتبارات القبلية، والجهوية، والعرقية، أما بالنسبة للمناصب الانتخابية فالأمر مختلف، ويرى المراقبون أنه ينبغي أن تكون الكلمة فيها للأغلبية، وأن تـُترك حرية الانتخاب للناخبين، ليختاروا بملء إرادتهم أي زميل لهم يمنحونه رئاستهم، وألا يتم التعامل مع النواب بطريقة الأوامر الفوقية، والتعليمات المسبقة، وهم ممثلوا الشعب، لا نقول هذا لأن النائب المحترم الشيخ ولد بايه لا يستحق رئاسة البرلمان، فله كامل الحق في ذلك، كأي نائب آخر، بل نقوله لأن اسم الرجل كان متداولا لدى الجميع باعتباره صديقا شخصيا للرئيس وقرر منحه رئاسة البرلمان هذا حتى قبل إجراء الانتخابات التي فاز ولد بايه في شوطها الثاني بشق الأنفس، فالدستور منح لرئيس الجمهورية حق تعيين الوزير الأول، لكنه جعل منصب رئيس البرلمان بالانتخاب، لا بالتعيين.
مشكلة معظم السياسيين عندنا أنهم "يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم"، فمعظم نواب الشرق، والجنوب، والوسط يقولون - في مجالسهم الخاصة- إن البرلمان يتكون من 157 نائبا، تضم ولايات الشمال الثلاثة مجتمعة (آدرار، تيرس الزمور، إينشيري) 11 نائبا فقط، نتيجة لقلة عدد سكانها، مقارنة بالولايات الأخرى، لذلك من الطبيعي، والديمقراطي أن تؤول رئاسة البرلمان، للولايات ذات الكثافة السكانية، ومع منح حزب الاتحاد من أجل الجمهورية رئاسة فريق الأغلبية لنائب من الشمال، يصبح منح رئاسة البرلمان لنائب من الشمال كذلك، "تمكينا للشمال" - كما يقولون-، ومن لم يستطع من النواب التعبير عن ذلك علنا، فالأكيد أنه " أسرها في نفسه ولم يبدها لهم"
يحز في النفس فعلا أن نكون في القرن الحادي والعشرين، ونتحدث بهذا المنطق القبلي، الجهوي، العرقي، فهذا أمر سيئ، لكن الأسوأ منه هو أن نمارس الجهوية، والقبلية في أسوأ نماذجها، فالعدل مطلوب حتى في ممارسة الجور، فإذا لم تكن الاعتبارات القبلية، أو الجهوية، أو الشخصية هي التي رجحت كفة منتخبي الشمال، فما الذي رجحها يا ترى، وهل كـُتب على أهل الشرق أن يكونوا محكومين، لا حاكمين، ومنقادين، لا قادة ؟؟!!.
البعض ممن يتحدثون اليوم يتساءلون باستغراب مخاطبين الرئيس ولد عبد العزيز.. السيد الرئيس لا نريدك أن تكون رجلا "فيك جهوية"، حتى لا نقول شيئا آخر، فموريتانيا الأعماق بحاجة إلى العدالة في توزيع المناصب، وتكافؤ الفرص، فأهل الحوض الشرقي يذكرون لكم - وبإعجاب- مشروع الظهر الذي حل مشكل العطش، لكنهم يتطلعون لأن تنعكس أصوات ناخبيهم في الهيئات القيادية في الدولة، وأهل الحوض الغربي هم كذلك، ولعصابه، واترارزه، ولبراكنه، وكوركول، وكيدي ماغا..إلخ
إنه من المفترض أن يختفي منطق "المفاضلة" بين مناطق الوطن، ليحل محله منطق "المشاركة"، فموريتانيا جسم واحد، غير قابل لتهميش، ولا إقصاء أي من أبنائه، ولا مناطقه، فالجميع يريد أن يأكل من سمك انواذيبو، ويشرب من لبن الحوض الشرقي، ويستغل معادن ازويرات، وإينشيري، ويتذوق تمور آدرار، ويأكل من أرز اترارزه، فالكل يحتاج للكل، وبمنطق المشاركة العادلة نزداد قوة وتقدما، وبمنطق المغالبة، نتجه للاحتقان، والانفجار، خاصة أن الجميع اليوم بات يدرك ما له، وما عليه، ويعرف كيف يؤدي ما عليه من حقوق لوطنه، لكنه يعرف كذلك كيف يحصل على ما له من حقوق.