قرأت البيان "التوضيح" الذي نشرته رابطة علماء موريتانيا على موقعها على الأنترنت مساء الخميس الماضي تعليقا على إغلاق مركز تكوين العلماء وجامعة ابن ياسين وما ترتب عليه.. وبعد تهنئة الرابطة على "التفاعل" مع الأحداث، وتهنئة الموقع على "التحديث" (لم يُحَدّث بعد بيان مساندة الحزب الحاكم في الانتخابات الأخيرة) أسجِّل الملحوظتين الآتيتين:
الأولى: تحدَّث "التوضيح" (ليس توضيحَ أبي المودّة على مختصر ابن الحاجب) الصادر عن الرابطة في الفقرة المتعلقة بالحرّية عن حرمة "الخروج على الحاكم بقول أو فعل" وقد استوقفني في "البيان" الخروج القوليّ، فما عرفته من قبلُ.. ويسعدني أن أطارح مشايخ الرابطة الفضلاء الحديث عن تحرير مفهوم الخروج، فهو يطلق في اللغة على النفاذ عن الشيء والخلاص منه، يقول ابن فارس:
"الْخَاءُ وَالرَّاءُ وَالْجِيمُ أَصْلَانِ، وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنَّا سَلَكْنَا الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ. فَالْأَوَّلُ: النَّفَاذُ عَنِ الشَّيْءِ. وَالثَّانِي: اخْتِلَافُ لَوْنَيْنِ" (مقاييس اللغة).
والخروج الذي نعنيه مأخوذ من المعنى الأول كما يظهر من تعريف الفقهاء له، فقد عرَّفه الإمام ابن عرفة المالكي بقوله: "الامتناع من طاعة من ثبتت إمامته في غير معصية بمغالبة ولو تأولا" (مواهب الجليل: 8/366) وهو قريب من تعريف فقهاء المذاهب الأخرى له، والخروج بهذا المفهوم الغالب هو المعبر عنه في كتب الفقه بـ"البغي".
فالامتناع عن الطاعة إذا أمر الحاكم بظلم أو منكر.. ليس "خروجا"، إذ هو المطلوب شرعا لقوله صلى الله عليه وسلم: "السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ" (البخاري) وقد نسب العينيّ لعياض قوله: "أجمع العلماء على وجوب طاعة الإمام في غير معصية وتحريمها في المعصية" (عمدة القاري: 14/221)
وبالغ بعض علماء المالكية فقال: لايطاع أمر السلطان في المكروه المجمع على كراهته لأن ذلك من الإحداث في الدين ما ليس منه (الشرح الكبير: 4/298).
كما أن الامتناع عن الدخول في طاعة الحاكم دون حمل السلاح وإخافة الأمن ليس من هذا الباب، وقد استدل الفقهاء لذلك بما ثبت أن عليّا رضي الله عنه مكث أشهرا لم يبايع، وسعد بن عبادة رضي الله عنه لم يبايع أصلا.
وبناء على هذا يسعنا أن نقول: إن الخروج على الحاكم هو: "رفض الخضوع للنظام العام (القانون) والامتناع عنه مع حمل السلاح والثورة ضده"، فمن لم يغالب ليس بباغ لأن المغالبة بمنزلة "الفصل" حسب تعبير المناطقة في تعريف الخروج، قال الحطاب: "قال ابن عبد السلام: ولفظة "مغالبة" كالفصل أو كالخاصة لأن من عصى الإمام لا على سبيل المغالبة لا يكون من البغاة" (8/367) ومشايخ الرابطة يدركون جيدا محورية "الفصل" في بيان الماهية.
فالجليّ ممّا سبق أنه لا يوصف بـ"الخروج" إلا من حمل السلاح فأخاف الآمنين، وهدّد استقرار البلاد، فأين من الخروج إذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح "لولي الأمر" والأخذ على يد الظالم..؟
من أنكر فقد سلم..
إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في أحاديث صحيحة كثيرة بإنكار الظلم والوقوف في وجهه بما يستطيع المسلم مما شرع له ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته : "ألا إني أوشك أن أدعى فأجيب فيليكم عُمَّال من بعدي يقولون ما يعلمون ويعملون بما يعرفون، وطاعة أولئك طاعة، فتلبثون كذلك دهرا ثم يليكم عمال من بعدهم يقولون ما لا يعلمون ويعملون ما لا يعرفون، فمن ناصحهم ووازرهم وشد على أعضادهم فأولئك قد هلكوا وأهلكوا، خالطوهم بأجسادكم وزايلوهم بأعمالكم، واشهدوا على المحسن بأنه محسن، وعلى المسيء بأنه مسيء" (الطبراني في الأوسط)، وفي حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قال:" يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ أنكر شيئا فقد بريء وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ"(مسلم).
وقد علق نور الدين الملا الهروي على الحديث: "(فَمَنْ أَنْكَرَ) أَيْ مَنْ قَدَرَ أَنْ يُنْكِرَ بِلِسَانِهِ عَلَيْهِمْ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ وَسِمَاتِ أَحْوَالِهِمْ وَأَنْكَرَ (فَقَدْ بَرِئَ) أَيْ مِنَ الْمُدَاهَنَةِ وَالنِّفَاقِ (وَمَنْ كَرِهَ) أَيْ وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ وَكَرِهَ ذَلِكَ (فَقَدْ سَلِمَ) أَيْ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِي الْوِزْرِ وَالْوَبَالِ (وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ) أَيْ بِفِعْلِهِمْ بِالْقَلْبِ (وَتَابَعَ) أَيْ تَابَعَهُمْ فِي الْعَمَلِ فَهُوَ الَّذِي شَارَكَهُمْ فِي الْعِصْيَانِ وَانْدَرَجَ مَعَهُمْ تَحْتَ اسْمِ الطُّغْيَانِ" (مرقاة المفاتيح: 6/2396).
وأخرج أحمد في المسند والحاكم في المستدرك بسند على شرط الشيخين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك أنت ظالم فقد تُوُدِّع منهم".
ونقل الطبري وجوب قيام الناس على الإمام إذا ظلم حتى يأخذوا الحق للمظلوم بعد كلامه عن منع الخروج عليه قال: "إلا أن يكون خروجه عليه بظلمٍ ركب منه في نفسٍ أو أهلٍ أو مالٍ؛ فطلب الإنصاف فلم ينصف؛ فيجب على المسلمين حينئذٍ الأخذ على يد إمامهم المرضية إمرته عليهم، لإنصافه من نفسه إن كان هو الذي ناله بالظلم، أو أخذ عامله بإنصافه إن كان الذي ناله بالظلم عاملاً له" (التبصير في معالم الدين159)
فانظر كيف أوجب على الأمة مساعدة "الخارج" المطالب بإنصافه في حقه حتى ينال حقه من الحاكم أو نائبه، فالإسلام لا يقر أحدا حاكما أو غيره على مظلمة.
وقد كان أئمة الدين وفقهاء السلف بهذا الأصل آخذين قوامين بالقسط لا يهادنون السلاطين في كلمة الحق وأخبارهم في ذلك من لدن الحسن البصريّ والإمام أحمدَ مرورا بالعزّ بن عبد السلام إلى الإمام بدّاه ابن البوصيري معلومة مشهورة.
فالخلاصة: أن النداء على الحاكم بالعدل ومطالبته برفع الظلم وإيفاء الحقوق وصون الحرمات ومحاربة الفساد.. إلخ أمور لا تمت بصلة إلى "الخروج" و"البغي" بل هي دائرة بين النصح لولاة الأمور، وتغيير منكرهم.
ويعد التنظير للطاعة المطلقة والدفاع عنها مظهرا من مظاهر فقه الانحطاط كما يرى د.عبد المجيد الصغير في كتابه: "إشكالية السلطة العلمية في الإسلام" ترتب عليه سلب العلماء والمصلحين مكانتهم وقدرتهم على التأثير، ووضع فيه الجمهور في موقع ضعيف الإيمان الذي لا حيلة له حسب تعبيره، وساد منطق: (افعل ما أمرك السلطان به فإنه لا يخشى في الدنيا عارا ولا في الآخرة نارا) ولاتزال آثار ذلك قائمة إلى يوم الناس هذا.
الثانية: نبّهت الرابطة في توضيحها إلى أنّ سحب التراخيص أو منحها داخل في حيِّز المباح، فلا منحها بواجب، ولا سحبها بحرام، ويدرك كلُّ ذي عقل ما في هذا الإطلاق من خطإ، فالمؤسسات الساعية للتنصير مستغلّةً حاجة الناس وفقرَهم، وعاملة على إفساد معتقَدهم لا يجوز منح التراخيص لها (الرابطة تربطها اتفاقية تفاهم منشورة مع الرؤية العالمية).
والمراكز العلمية التي تنشر النفع العميم والخير العظيمَ ، وتعلّم العلم النافع والهدي القويم.. لا يجوز سحب التراخيص منها؛ فهو ظلم عامٌّ وضررٌ شامل للمجتمع والطّلّاب والأساتذة والموظَّفين.. وهو فتح لأبواب الجهل والتخلّف والفتنة والتطرَف.. فأي منكر أعظم من هذا؟؟
وإن كان المشايخ الموقَّرون في الرابطة يحتاجون دليلا على حرمة المنح في الأولى، والسحب في الثانية فسيمدُّ أبو حنيفة رجله.
وختاما: أجمل ما في بيان "التوضيح" تذكيره بقول الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل: 116، 117]