أولا، واقع التعليم الموريتاني:
في العقود الأخيرة سجل التعليم في بلادنا انتشارا ملحوظا، لكن هذا الانتشار لم يتَّسم بمستوى الجودة الضرورية. فظلت أوضاعه تسير في نفس الاتجاه حتى وصلت إلى واقعها الحالي، هذا الواقع الذي يراه المتفائلون مُخلا، ويراه المتشائمون مُخجلا.
ودون الإطالة، نلخص هذا الواقع في تدني مستويات التحصيل الدراسي لدى مؤسسات التعليم العمومي - كما تشير نسب النجاح - مما شجع الهجرة إلى التعليم الخصوصي، بالنسبة للقادرين على مصاريفه الباهظة، فكاد التعليم بذلك يكون تعليما طبقيا.
مع أن التعليم الخصوصي أيضا له مشاكله، وله سلبياته الخطيرة. وما كان له أن يحتل مراتب معتبرة في العطاء الدراسي، لولا أن التعليم العمومي بدأ يُخلي له المجال.
وقد أعطت نسب النجاح في الشهادات، إلى جانب معدلات الاستبقاء، صورة صادمة، من عدم التناسب بين مدخلات القطاع الضخمة، مع مخرجاتة الضعيفة. علما بأنه من القطاعات الأكبر مخصصات في تبويب الميزانية الوطنية.
وبطبيعة الحال لكل واقع أسباب، ومن أسباب الواقع الحالي لتعليمنا العمومي، أن القطاع قد تبنى منذ مدة سياسة التركيز على الكم بدلا من التركيز على النوع. وفي ظلال ذلك لجأت الوزارة إلى اتخاذ حلول "استعجالية" كالتفويج حلا لنقص الحجرات. والتبادل حلا لنقص المواقع. والقسم متعدد المستويات حلا لنقص المدرسين. واعتماد الازدواجية الزائفة حلا لنقص اللغة الأخرى. وفي كل ذلك ما فيه من عواقب وخيمة.
وبدون أدنى شك، لم تكن نتائج التجربتين، القاصرتين، لعامي: 79 و 1999 من هذا الواقع المتردي ببعيدتين.
يضاف إلى كل ذلك أن سباق المديريات الجهوية نحو تجسيد "شعار التمدرس للجميع قبل سنة ألفين" وغيرَ ذلك من الهواجس، قد أدى بالبعض إلى رفع تقارير سنوية غيرِ دقيقة الأعداد أحيانا. فأصبحت الخطط الإستراتيجية للقطاع تُبنى على قاعدة بيانات كاذبة.
أما على مستوى دوائر القرار الرسمي فلم يكن تحريك الأشخاص ترقية، وتنزيلا، خاضعا دائما، لمعايير مرضية. فشكل ذلك الَّلونُ من الفوضى عامل إحباط بين المدرسين المجتهدين المنتجين.
ثانيا، تحديات التعليم الموريتاني:
يمكن أن نجمل التحديات التي تواجه المنظومات التعليمية في ظروفها الاعتيادية، في تحديين بارزين:
أ- تحدي طبيعي عام، يتعلق بالدور الذي أُنشئ من أجله القطاع حيث تبذل المنظومة التعليمية جهودها في سبيل بلوغ الأهداف الوطنية الكبرى المعبرة عن إرادة المجتمع، وفلسفته، وطموحه، وعن استراتيجياته المركزية.
ويؤول ذلك إلى نقطتين:
الأولى ضمان تعميم الظروف الدراسية الملائمة لكل الأطفال البالغين السن الدراسية.
والثانية توفير تعليم، متميز يهيئ عقول الأجيال للمنافسة، ويؤهلهم للتكيف المثالي مع المستجدات، ويساعدهم على الإسهام النوعي في بناء الصرح الحضاري البشري.
وبطبيعة الحال فإن هذه التحديات العامة تدخل تحتها تحديات جزئية تتوزع طردا على مكونات المنظومة التربوية.
فنحن مثلا حينما نُسمى قطاع التعليم منظومة، فإننا قد نظرنا إليه مركبا من عناصر، مكونة له، تنتظم في إطاره العام (مكون بشري- مكون مادي - مكون تنظيمي - مكون فني)
ولكل واحد من هذه المكونات تحديات تخصه حينا، ويشتركُ فيها مع غيرِه أحيانا.
ب- تحدي محلي خاص يتعلق بالعمل على تحرير القرارات التربوية من الارتهان لضغط المناكفات السياسية، حتى تبقى إجراءاته إجراءاتٍ تربويةً فنيةً محضةً، لا تخضع لأمزجة الأنظمة، ولا لاجتهاد الحكومات.
فمن تقاليدنا المَعيبة مثلا، أن تتسمى الوزارات بأسماء متغيرة مع كل تشكيلة حكومية. وأن يأتي كلُ وزير بهيكلة مغايرة. ومنها كذلك أن تُسند المهام، أو يُعفى أصحابُها منها، لأسباب غير شفافة.
فلا ينكر فوائدَ الاستقرار الوظيفي، وثبات الأسماء (الرأسيات) والبُنى الهيكلية. مقابل أضرار التغييرات العشوائية، إلا مكابر. أما قيمةُ وضع الأشخاص في الأماكن المناسبة لهم فلا مُشاحَّة فيها، على ما نعتقد.
ثالثا، الآفاق المستقبلية:
بخصوص آفاق مستقبلنا التعليمي فقد تقدمت الإشارة إلى أن واقعَه الحالي نتيجةٌ لعوامل متعددة:
- منها انشغال الأنظمة المتعاقبة على البلاد منذ أربعين سنة عن أوضاع التعليم، بمشاغل أخرى، وتلك حقيقة صرح بها بعض القادة، ولمَّح إليها بعضهم. ويتجسد هذا الانشغال في غياب المتابعة. وفي الجهود الضائعة التي تبذل في نشاطات لم تُدرس مردوديتُها. وفي بعض القرارات التي تصدر ولا تنفذ. وفي المشاريع التي تولد ميتة.
- ومنها أيضا أن السياسةَ ألقت بظلالها على تسيير القطاع منذ مُدة، فشاعت في مراكز النفوذ فيه المجاملةُ، والمحسوبيةُ، وتصفيةُ الحسابات.
وعلى غرار هذه المعلومات فإن مستقبل القطاع يبقى مُعلقا على ما ستُوليه إياه سُلطات النظام القائم من اهتمامها، بدءا بالمتابعة الدقيقة، والصرامة في تطبيق القرارات، وصولا إلى تشخيص الاختلالات، ووضع العلاجات.
ونحن على هذا الافتراض أمام احتمالين:
أ- احتمال لا نتمناه. بل يتعين علينا التصدي له بوسائلنا الشرعية المتاحة، وهو أن تبقى الأمور في منظومتنا التعليمية التربوية على رتابتها، مما يُنذر بمستقبل غائم.
ب- احتمال نرجوه. ويجب أن نعمل باستماتة من أجل تحقيقه، وهو أن يَحظى هذا القطاع الهام بلفتة كريمة من لدن سلطات النظام القائم، تستهدف النهوض به. كأن تعهَد السلطات إلى فريق من خبراء التعليم بمراجعة دقيقة لمكوناته فتُفضي تلك المراجعات إلى تصور إصلاح تربوي وطني تُراعى في صياغته كل المعطيات، والخصوصيات المحلية الدينية، والاقتصادية، والاجتماعية، ثم يُعرض قبل نشره رسميا كمشروع للدراسة والتحسين، على لجان متخصصة لدى أروقة السلطة التشريعية. وبعد أن تتم دراسته، ومراجعته، وتزكيته كإصلاح تربوي شامل، متكامل، يبدأ تنفيذه مدعوما بالإجراءات المصاحبة الضرورية. على ألا تخضعَ أيُّ خطوة من تلك الخطوات لظروف الاستعجال.
رابعا، الخلاصة:
كما يقال: "العلم هو المعرفة المقرونة بالدليل" و"المعرفة هي القدرة على التوقع". و"الواقع كائن عنيد".
فلو أننا انطلقنا من هذه المقولات كمقدمات، سبيلا إلى التنبؤ بالمآلات المستقبلية القريبة لمنظومتنا التعليمة، فإن الاستنتاج المنطقيَّ قد لا يكون مُبشرا !!
لكن الروحَ الوطنيةَ، والمهنيةَ، التي ظل المدرسُ الموريتانيُّ يتحلى بها في حله، وترحاله، خلال رحلته الشاقة من أجل توصيل رسالته التعليمية، التربوية، الإنسانية، مدعوما بنضال نقابات القطاع، وبجهود كل الغيورين على مستقبل الوطن الموريتاني، هذا إلى جانب استحضارنا الوقائعَ التاريخيةَ، وما تُخبئه الأيامُ في دوراتها من مقومات التحسين، ومن دوافع التطوير.. كل هذه العوامل مجتمعة، لا تَنْقطع معها شعَرةُ الأمل، ولا تَغيض في سياقاتها روافدُ التفاؤل.
وكأن لسانَ حالِ منظومتنا التربوية يُناجي نفسه في هذه الأثناء: ليت سُلطاتِنا المركزيةَ استشعرت أن واضعي الإستراتيجيات التنموية في دول العالم من حولنا، لم يعودوا يتنافسون على أي مكسب من المكاسب، أشد مما يتنافسون على صعيد التنمية البشرية من بوابة التعليم، إعدادا للكفاءات، وتأهيلا للعقول.
أحمدُّ ولد الإمام ـ مفتش تعليم متقاعد