مأزق الإختيار.. أن تكون طبيبا لا أديبا / الحسين ولد محمد عمر

منذ سنوات خلت، كنت من بين مجموعة طلاب متفوقين، متجاوزين سنتها من السنة الثالثة إعدادية إلى الأول ثانوي، كانت نتائجنا متساوية في المواد الأدبية ومواد أخرى كالرياضيات والعلوم، ثم إنه حينها كان الطالب يوجه إما إلى التخصص الأدبي أو العلمي بناء على تلك النتائج، و نتيجة لذلك حُوِّلنا إلى التخصص العلمي و غني عن القول أن ذلك دون إرادتنا، لكن تلك المسألة كانت أكثر تأثيرا علي شخصيا و لا يمكنني الجزم على أصدقائي ساعتها لأنه على الأقل لم يصرح أحدهم بذلك لي. لا ألوم من قام بذلك، فالعقلية السائدة هي تفضيل التخصص العلمي على الأدبي، حيث أن كل الموجّهين إليه (الأدبي) هم أصحاب المعدلات المتدنية و ضعيفي الفهم. إنني أتحمل المسئولية أو لعل المحيط يتقاسمها معي وهو  الذي لم يساعدني على اتخاذ قرار كان ليكون مختلفا فيما لو فضلت التخصص الأدبي الذي كنت أهواه أكثر من العلمي بفعل كتب و مجلات ووقصص كنت أقرأها آنئذ.

ذكرت أعلاه أن الثقافة السائدة حينها - ولا تزال - هي تفضيل التخصص العلمي على غيره ولعل الشواهد المتعددة التي رأيناها لاحقا تثبت ذلك. ففي يونيو 2012 و خلال مقابلة للجنرال محمد ولد عبد العزيز مع صحيفة فرنسية قال فيها ما مضمونه أن موريتانيا ينقصها المهندسون وأصحاب التخصصات الفنية والحرفية فيما آلاف الشباب متخصصون في القانون والآداب و الشعر (على اعتبار أن الشعر علما يدرس في الجامعة)، ثم يعود في مارس 2017 ليقول إن " المنظومة التعليمة كانت حتى وقت قريب تخرج أكثر ما تخرج ذوي التخصصات الأدبية و العلوم الإنسانية و علوم الشعر". و كان وزير التهذيب الوطني قد قال في المؤتمر الصحفي الخميس 11/10/2018  أيضا ما مضمونه أو ما يوحي بأن الطلاب عليهم الالتحاق بالمعاهد الفنية حيث يقول " أن التسجيل ما يزال مفتوح في بعض مؤسسات التكوين الفني العالي و التي تعطيها الحكومة الأولوية " هذه التصريحات المتماثلة من المتحكمين في السلطة تظهر بجلاء الخلط المَرَضِي و العقدة النفسية من التخصصات الأدبية، إنهم للأسف عاجزون عن إدراك أهمية التخصصات ذات البعد الإنساني باعتبارها رافعة ثقافية وحضارية للدول بشكل عام و موريتانيا بشكل خاص وهي التي يظهر يوما بعد يوم مستوى العهر الأخلاقي والسياسي الذي وصلته بفعل غياب الوعي الثقافي والأدبي وتكوين الذات على الأحتفاظ بقليل من القيم التي نحتاجها ساعة الجد.فحتى الدول الرائدة في المجال الصناعي والتقني عالميا تعتبر من بين أكثر الدول حصدا للجوائز في المجال الأدبي ككل، بل عليهم إدراك أن المشكلة لا تكمن في التخصصات ذاتها بقدر ماهي مشكلة نظام تعليمي فاشل من ساسه حتى رأسه، نظام يزرع في الطلاب تفضيل تخصصات على أخرى و يميز بين الطلبة على ذلك الأساس. وكنتيجة لتجذر هذه الظاهرة أو العقدة على الأصح أصبح لدينا ما يعرف بـ " بومباج أو Pompage " الذي هو " نفخ نتائج المتجاوزين في مسابقة الباكلوريا حتى تبدو نتائج ممتازة في حين أن صاحبها/تها قد حصل/ت على معدل عام  10 أو 11 أو 12 " و ذلك لكي يستطيعون الالتحاق بكليات الطب في تونس أو المغرب أو أي دولة أخرى تضع معايير وضوابط لولوج جامعاتها، والغريب أن من يقومون بذلك أو بعضهم شديد الإعتزاز به و كأنه أنجز مهمة في غاية الدقة و النبل، في حين نحن مدركون أنه ذاهب ليكون طبيبا دون استحقاق ولا جدارة إ أن مستواه المتدنى سيجعلوه يرتكب خطأ طبيا كارثيا مستقبلا نظرا لضعف مستواه في حين كان بإمكانه التميز في تخصص آخر سيجلب له المال الذي يحركه ويحرك أهله الذين هم من بين أهم المتسببين في هذه الظاهرة القبيحة. غير مدركين جميعا أن هذا المعدل ربما عائد إلى أن هذا الطالب فرض عليه فرضا دراسة مواد لا يجد فيها ذاته وغير متحمس لها و بطبيعة الحال لن تكون النتيجة مرضية كما يحدث دائما.

لن يتوقف العالم ولن تموت جوعا إذا لم تكن طبيبا أو مهندسا، كما يجب ألا نرهن فشل موريتانيا بكثرة خريجي التخصصات الأدبية فدولة بلا محامين ولا أدباء ولا كتاب ولا مسرحيين دولة مكسورة الجناح ولن تكون قادرة على مسايرة غيرها بجناح واحدة، هذا إذا افترضنا " أقول افترضنا " و الإفتراض يكون لظاهرة لم تتحقق بعد، أننا سننضه بهذه السياسات التمييزية في المعرفة، فإما أن تكون للمعرفة ككل قيمة أو لا قيمة لشيء، إذ أنها كُلٌ غير قابل للتجزءة و من يحاول ذلك ناقص القدرة على الحكم على الأشياء. وعوضا عن ذلك يجب إصلاح التعليم و فتح الإختيار أمام االجميع دون إرغام أو تأثير  بأي شكل من الأشكال على إرادة الطالب و لنتركه يحقق حلمه سواء كان طيارا أو أديبا وكاتبا أو مهندسا أو طبيبا أو أي مهنة كانت، لا أن نكون أعداء للمعرفة و القيم الإنسانية النبيلة، إلا أن من كان عدوا لنفسه لن تكون لديه البصيرة ولا الفطنة للحكم على الأشياء بمنطق سليم ولن يكون إلا مصرا على أن تسير دولة بمنطق تنفيذ الأوامر، لكن موريتانيا ليست ثكنة.

13. أكتوبر 2018 - 23:20

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا