(1) عرفت المخدرات في السنوات الأخيرة انتشارا ملحوظا، ازدادت وتيرته عاما بعد عام، إن على مستوى كمياتها ومهربيها، وإن على مستوى بائعيها ومتعاطيها، والأدهى من هذا كله هو اتساع رقعة انتشارها؛ ذلك أنها كانت دُولَة بين طبقة الأثرياء ونواديهم، ثم انتشرت لتصل إلى أبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة، في مختلف أحياء العاصمة وبعض مدن الداخل.
كان من المفترض أن تحاصَر "تجارة المخدرات" وتناولها قبل سنوات عدّة، وأن توضع سياسات وقائية تحول دون انتشارها، واتساع رقتعها، وهو أمر أيسر بكثير من البحث عن العلاج المناسب لمكافحتها، أو الوقوف عند أبواب الحدود المترامية الأطراف انتظارا لإيقاف تهريب هذه الشحنة من المخدرات أو تلك؛ لكن تأبى نظرية " اللا مبالاة" و تطبيق قاعدة " دعها حتى تقع" في غير موضعها إلا أن توقعنا في هذا الخلل البيّن، والمرض المزمن الذي أوقعنا في مشكلات أخلاقية واجتماعية كثيرة معقدة ليس منها "المخدرات" وحدها!
(2)
ظلّت عملية مكافحة المخدرات في موريتانيا إلى وقت قريب محصورة في " الجهاز الأمني" الذي يعمل على إطفاء الحرائق فقط، دون أن يحول بين اندلاعها والقضاء عليها، وقد نجح الجهاز الأمني لمكافحة المخدرات في إيقاف كثير من المواد المخدرة التي يُساء استعمالها؛ لكنه في المقابل أخفق في تطويقها، وشد الخناق على أباطرتها وعصاباتاها؛ لأن مهمته دفاعية فحسب؛ تُعامل المجرمَ- في أحسن الأحوال- وقت استعماله للمخدرات أو بيعه لها، ولا تحول دون إدمان غيره، وزيادة عدد زبناء باعتها.
نعم، ربما تفطنت "وزارة الشؤون الإسلامية" لهذا الأمر؛ فأقامت مؤخرا ندوة أو ندوتين عن خطر تناول المخدرات وتداولها - داخل المدارس!-، وبُثّت على القناة الرسمية، بيد أنه لم تزد تلك الندوة على إلقاء محاضرات مرتجلة كانت دون المستوى المطلوب، بعيدة عن العمق في الدراسة، والدقة في التحليل، ولم تخرج بأي شيء عملي مفيد يُذكرُ، سوى توصيات فضفاضة قليلة النفع والفائدة.
(3)
إن مكافحة المخدرات يجب أن تنهج الآن نهجين اثنين: أحدهما: وقائي؛ أدواته: التوعية والإرشاد والتوجيه المدروس...، وثانيهما: علاجي؛ أدواته: العقاب الرادع، وإعادة التأهيل، والمساعدة على تجاوز مرحلة الإدمان...، والاكتفاء بنهج واحد أيا كان لن يؤتي ثماره، كما أن الاكتفاء بأداة واحدة داخل النهجين لن تؤتي أُكلَها.
لستُ أنوي هنا الحديثَ عن "مكافحة المخدرات" بشكل مستفيض، ولا أريد أن أقف عند كل وسيلة من وسائل مكافحتها، فأغلبها معلوم متداول، ينقصه التطبيق فحسب!؛ لكني أريد من خلال هذه "الورقة" لفت الانتباه إلى وسيلة من الوسائل المهمة التي يغفل عنها كثير من الكتاب في هذا المجال، وكثير من العاملين في مجال " مكافحة المخدرات" عن قصد أو غير قصد.
(4)
حسنا، ظاهر من العنوان أن الوسيلة االتي ينبغي جعلها الخطوة الأولى لمكافحة المخدرات هي مكافحة التدخين؛ ذلك أن التدخين هو البوابة الرئيسية للدخول إلى عالم المخدرات بأنواعه، ولا أظن أنه يوجد مدمن للمخدرات لم يمّر بمرحلة إدمان التبغ، فكل مدمنٍ للمخدرات مدمنٌ بالضرورة للتدخين، وهذا يدعونا للبدء بمكافحة التدخين، وإعطائه الأولوية في العلاج والوقاية؛ لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقاعدة سد الذرائع تقتضي سد جميع الطرق المفضية إلى المخدرات، والتبغ أول تلك الطرق.
إن من الأمور التي تدعو للقلق هو أن نسبة مدمني التدخين في تزايد، وغالب أهل تلك النسبة من فئة الأطفال والمراهقين، وهذا يعني أن هذه النسبة سترافقها زيادة في نسبة مدمني المخدرات من الأطفال نظرا للعلاقة الطردية التي تربط بينهما كما تقدم، ولستُ أدري لمَ الحرص على إقامة ندوات و ورشات للتحسيس ضد ما يسمى "زواج الأطفال"، وعدم إقامة أي أنشطة لمكافحة "تدخين الأطفال"!؟ مع أن الأول: لا ضرر له على الصحة والأخلاق، والثاني: مضر بصحة الطفل ونفسه وعقله وأخلاقه، غير أنه لا داعي للتعجب إذا ما علمنا أن أنشطة "مكافحة زواج الأطفال" تمول من طرف المنظمات الدولية المشبوهة، بينما أنشطة " مكافحة التدخين" لا تجد ممولين بل تسعى الشركات العالمية للترويج له، ودفع الأموال الطائلة مقابل نشره استنزافا للأرواح ، وبحثا عن الأرباح.
(5)
إن التدخين بالإضافة إلى خطره باعتباره مَعْبرا لتعاطي وإدمان المخدرات بالتدرّج؛ فهو مضر بذاته، ولا يقل خطورة عن المخدرات نفسها، والانتقال من " مكافحة التدخين" إلى " مكافحة المخدرات" يوصلنا إلى نتيجتين اثنتين: الأولى: فشلنا الذريع في تطبيق السياسات التي وضعت لمكافحة التدخين، والثانية: جعْلُنا التدخين شيئا حسنا لم يعد يحتاج إلى " مكافحة" أصلا!، وقد صار من المعلوم من الواقع بالضرورة وجود إحصائيات دقيقة، ودراسات علمية طبية من جهات مختصة موثوقة تثبت حصد التدخين لأرواح ملايين البشر، ومع ذلك نجد وزارة الصحة لا تحرك ساكنا، و وزارة الشؤون الإسلامية تكتفي بالحديث عن " مكافحة المخدرات" في المدارس، مع أن المطلوب هو منع التدخين في الأماكن العامة- على الأقل- على غرار كثير من الدول التي توصف بالتقدم، ثم إعداد أنشطة ميدانية تنظيرية وتطبيقية لمواجهة التدخين، الذي صار أمرا مألوفا في الشوارع والمؤسسات التعليمية والصحية.
(6)
يلاحظ دائما في الأحاديث "السجالاتية" المتعلقة بالتدخين حصر الحديث فيها عن ثنائية الحلال والحرام أوبشكل أدق ثنائية القائلين بحرمة التدخين، والقائلين بإباحته، وهذا اختزال للنقاش، ويجعله دائما ينتهي بالاحتجاج بمن ليس معصوما مبيحا كان أو محرِّما، ونقاش حكم التدخين والموقف منه ينبغي أن ينطلق من ثنائية: الإيجابيات والسلبيات، أو بلغة الشرع ثنائية: الإثم والمنافع، والسؤال الذي يجب أن يطرح هو: ما منافع التدخين على الفرد والمجتع؟ وما إثمه؟ أكبير هو أم صغير؟ ومعلوم أن الجواب لن يكون في صالح التدخين؛ لأن منافعه لا يعرفها مدمنه أحرى منكره، أما إثمه ومضاره فكثيرة معلومة للمدخّن قبل غيره.
إذا توصلنا إلى أن التدخين مضر ضررا بينا بمتعاطيه ومن جاوره، وليست له منافع ذات بال إلا ما كان من ربح يذهب إلى جيوب أباطرة المال والأعمال، والشركات متعددة الجنسية، وعلمنا أن إدمان التدخين يؤول في أكثر أحواله إلى إدمان المخدرات؛ فحري بنا أن نجعله خط الدفاع الأول في مواجهة المخدرات ومكافحتها، ونكون بذلك قد قمنا بعملين جليلين في آن واحد، هما: " مكافحة التدخين" و " مكافحة المخدرات"، أما الاكتفاء بمكافحة المخدرات وترك الباب مفتوحا للتبغ؛ فسيوصلنا إلى نتائج مخيبة على المدى الطويل، ويدع التدخين يذهب بالأرواح، ويزيد نسب مدمني المخدرات، وفلذات أكبادنا هم الخاسرون في النهاية، والرابح هم: عصابات تهريب المخدرات، وشركات أو امبراطوريات بيع التبغ الأحمر!
أيوب السيد/ [email protected]