تابعا عن كثب مجريات الوقائع السياسية في ملحمتي: عرفات والميناء، إلى حين حسمهما، ورأينا كيف أن بعض الناس قد ذهب إلى حد اعتبار هاتين "الملحمتين" صراعا بين الحق والباطل، أو بين الخير والشر، وقد صور كلا الطرفين نفسه حليف الحق ومرجعية الخير الأسمى للمواطنين، بينا آثر آخرون وصف هذه الملحمة على أنها سطو على إرادة الشعوب وتقويض قناعاتها عن طريق الابتزاز والعبث بمقدرات الدولة.أما التصوير الدقيق لهذه الملحمة بالنسبة لنا و بالنظر إليها من زاوية سياسية بحته لا من زاوية قيمية هو أنها امتحان لنضج ديمقراطيتنا أو عدمه من جهة، وقياس لمؤشر الوعي لدى شعبنا ونخبنا السياسية معارضة وموالاة من جهة أخرى، وعليه يمكن القول بناءعلى ذلك أن ما يستفاد من هذه التجربة السياسية "الاستثنائية" المتمثلة في ملحمتي عرفات والميناء هو أولا أن لدينا قيما ديمقراضية وإن كانت لاتزال أجنة، ويتمثل ذلك أساسا في تحييد أجهزة الدولة عن التأثير في توجيه نتائج العملية الانتخابية أثناء سيرها، أو التشويش عليها أو تغييرها عن طريق التزوير العلني، فهذا ما لم نلاحظه مقارنة مع ما ألفناه في الماضى، كما أن تقاسم الفريقين لكعكة البلديتين يعلن جليا أن هناك معارضة تحمل مشاريعا طموحة في وسعها أن تستميل المواطنين، لا تلك المعارضة التي تقف على حدود الترديد الببغاوي لبعض الشعارات السياسية الجوفاء، كما يبين في الوقت نفسه أن مؤشر الوعي لدى المواطنين قد أخذ يرتفع مانحا رجحانا للقيم الديمقراطية والقناعات السياسية رجحانا على مكانة الأشخاص والامتيازات والمنافع المادية، ولإن كان بعض السياسين الذين يمموا وجوههم شطر البلديتين في حشود فريدة من نوعها إبان الحملة الانتخابية، قد استخدموا دعايات مفرطة ارتفعت حدتها أحيانا إلى حد الانزلاق، فإن ذلك في رأينا لا يتناقض وقيم الديمقراطية ما دام وعي المواطن و قاناعاته هما الحكم، وهذا ما نعول عليه في تنمية أجنتنا الديمقراطية، والوقوف للحيلولة أمام إجهاضها قبيل نضجها، كما أن هاتين الملحمتين قد أبانتا أن تحسنا ملحوظا قد طرأ على اللجنة المستقلة للانتخابات الأمر الذي جعلها تمسك العصا من الوسط وتقف عصية أما الاستقطاب والاستهلاك، والانحياز نحو جهة معينة، ولعل هذا هو ما أشار إليه رئيس حزب تواصل الأسبق جميل منصور في تدوينته الأخيرة تعليقا على نتائج الشوط الثالث حين أشاد بدورها.