تملي حساسية المرحلة والمعطيات الجيوسياسية وطنيا وإقليميا وعربيا ودوليا؛ على النخب بما لا يدع فرصة للتأجيل؛ ضرورة استشراف مبني على التحليل الموضوعي لمستقبل بات على مسافة قريبة جدا من منعرج سيكون له ما بعده؛ هذا المنعرج ليس سوى استحقاق 2019 الرئاسي.
لماذا إذا تؤجل النخب العمل على تفكيك الواقع الوطني وتحليله تمهيدا للمرحلة المقبلة وضمانا لسيرورة طبيعية للمسيرة الوطنية نحو البناء والتغيير وإعادة تأسيس الدولة؟
صحيح أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز قطع أشواطا بعيدة على طريق تكريس المبادئ أعلاه نهجا سياسيا واضحا؛ ولكن من المعلوم أيضا أن مأموريتين بسنواتهما العشر لا تكفيان لإكمال مهمة متعددة الوجوه من الصعوبة بمكان هي ترسيخ الدولة وإعادة تأسيسها على أسس متينة وانتشال اقتصاد مصاب في توازناته الأساسية بفعل عقود النهب المنظم والفساد؛ وتوفير مناخ آمن في محيط مضطرب يتهدده الإرهاب والجريمة المنظمة.
هاجس آخر يؤرق ـ أو هكذا يجب أن يكون ـ النخب المنضوية تحت يافطة الأغلبية الرئاسية هو ضمان استمرار المشروع الاصلاحي لفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز؛ فليس مقبولا تحت أي ظرف أن يذهب جهد وحصاد كل هذه السنين من العمل هكذا أدراج الرياح.
يمكن زمنيا تقسيم فترة حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز ـ رغم ما يعتري التقسيم الزمني من عيوب ـ إلى ثلاث مراحل أساسية: مرحلة ما قبل انتخابات يوليو 2009؛ فمرحلة المأمورية الأولى ثم المأمورية الثانية. لقد تبدد حلم الحكم المدني حينها عام 2007 بسبب الانزلاقات الخطيرة التي نتجت عن أخطاء أخطر؛ ما فرض على الجيش والقوات المسلحة الوطنية أخذ زمام السلطة تصحيحا للمسار؛ وأبانت قيادة الانقلاب عسكريين ومدنيين عن مستوى عال من النضج والمسؤولية الوطنية مهدت لتأسيس أرضية مشتركة صلبة انبثق منها اتفاق داكار وأعاد قطار الديمقراطية الوطنية إلى سكته.
وأظهر الأداء الجيد للفريق الحكومي للرئيس محمد ولد عبد العزيز تهافت دعاية الدولة الفاشلة التي روجت لها أطراف في المعارضة مع شركاء خارجيين؛ وأعاد لشركاء موريتانيا في التنمية ثقة زعزعتها الدعايات الآنفة.
وإن كان من وصف يناسب المرحلة التالية أي المأمورية الأولى فهو خارجيا عودة موريتانيا بقوة إلى المعترك الدولي كعضو فعال على مختلف الأصعدة؛ ومرحلة الاستثمارات الكبرى والتمويلات الضخمة حيث ناهز إجمالي التمويلات الخارجية خلال هذه المرحلة 5 مليارات دولار.
ونفذت خلال هذه الفترة أيضا مشاريع اقتصادية عملاقة كمشروع اظهر الذي من المنتظر أن يحل مشكلة المياه في الحوض الشرقي بشكل نهائي، ومشروع آفطوط الساحلي الذي وفر مياه الشرب للعاصمة نواكشوط ومناطق عديدة على طول خط الأنابيب وتوفير الكهرباء رغم ما يواكبه من صعوبات تمحورت في تغيير الشبكة من هوائية إلى أرضية، ورأت النور كذلك مشاريع اجتماعية كمشروع أمل الذي استهدف الطبقتين الفقيرة ومحدودة الدخل، وتحويل مثلث الفقر إلى مثلث الأمل وتوفير آلاف فرص العمل في القطاعين العام والخاص؛ وشيدت عشرات المستشفيات في عموم البلاد إضافة إلى فك العزلة عن مناطق عانت منها كثيرا في داخل الوطن.
وعلى المستوى الداخلي كان هناك سعي دءوب لجمع كل الفرقاء السياسيين على طاولة الحوار؛ للوصول إلى الحد الأدنى من التفاهمات تحصينا للجبهة الداخلية.
أما المأمورية الثانية التي كان منتظرا أن تشكل استمرارا لنجاحات سابقتها؛ فليس سرا أنها لم تكن كذلك؛ ما يجعل الوصف الأنسب لها مأمورية التعثر؛ إذ تراجع تصنيف البلاد على عديد المؤشرات التنموية العالمية؛ وتأخرت مشاريع مستمرة منذ المأمورية الأولى.
سياسيا واجتماعيا ارتفعت في المأمورية الثانية حدة الخطاب الشرائحي والفئوي وحتى الجهوي بشكل مقلق جعل بعض المراقبين يطرح احتمال راع رسمي لمثل هذا الحراك.
وإذا كان هذا التعثر مبررا في بعض جوانبه بأوضاع وطنية ودولية كتراجع سعر خامات الحديد في السوق الدولية؛ فإنه في جوانب أخرى يطرح علامات استفهام كثيرة تغري بالبحث والتدقيق الموضوعي العلمي في أسبابه.
راهنا يواجه البلد جملة تحديات لا مناص من رفعها قبل الوصول إلى المنعرج؛ ففي وضع إقليمي ودولي متأزم كالظرف الحالي؛ لا محيد عن حل نهائي لملفات كالإرث الإنساني وموضوع الرق؛ حل يسحب الورقتين الرابحتين من أيدي من يلعبونهما في الداخل والخارج بسوء طوية؛ ومن جهة أخرى لا بد أن يحسب للهزات الارتدادية لزلزال الربيع العربي حسابها؛ خصوصا وأن دوائرها تتسع لتمس المحيط؛ وأن الأطراف الأساسية المحركة لما يعرف بالربيع العربي ربما أصبحت تصنف موريتانيا ضمن من يناصبونها العداء؛ على خلفية الموقف من الأزمة الخليجيةـ الخليجية.
مثل هذه المعطيات تفرض مواءمة المرحلة المقبلة مع متطلبات المناخ الإقليمي والدولي وأخذ التغيرات الحاصلة والجارية في الحسبان.
العد التنازلي لمرحلة ما بعد رئاسيات 2019 قد بدأ؛ بعبارة أخرى المسافة إلى المنعرج تتقلص.. فماذا بعد؟! يتداول المراقبون والمحللون سيناريوهات عديدة لما قبيل المنعرج، تتفاوت موضوعيتها أبرزها ثلاثة سيناريوهات:
أولا: سيناريو المأمورية الثالثة: هذا السيناريو مستبعد ومطروح في آن معا؛ مستبعد لأن رئيس الجمهورية شخصيا أعرب عن عدم نيته الترشح لمأمورية ثالثة؛ ومطروح لأن رئيس الجمهورية هو ممثل لقطاعات عريضة من الجماهير الموريتانية لا تقبل تحت أي ظرف التفريط في المكتسبات الوطنية؛ ولها القدرة أن تفرض إرادتها على الرئيس خصوصا في ظل ما يتيحه تفعيل المادة 38 من الدستور من صلاحيات تمكن الرئيس من الاستفتاء على دستور جديد يؤسس لجمهورية جديدة.
وإن كان هذا الاحتمال ممكن التنفيذ فقد يكون ذا كلفة مرتفعة؛ فلا يوجد ما يضمن أن يتقبله الشركاء في ظرف إقليمي ودولي كهذا؛ أما داخليا فموقف أغلب قوى المعارضة والمركزيات النقابية محسوم مبدئيا: إنه الرفض ثم الرفض.
ثانيا: سيناريو إجراء انتخابات مفتوحة دون تدخل من النظام وهو خطوة غير مضمونة النتائج فمثل هذا السيناريو قد يوصل قوى راديكالية لسدة الحكم؛ تنسف كل ما حققه النظام خلال السنوات الماضية؛ وربما يضع البلد في ظرف غير مساعد على الانتقال السلس للسلطة.
ثالثا: سيناريو استخلاف أحد أركان النظام: هذا السيناريو ذو وجهين:
استخلاف عسكري: في هذه الحالة فالخليفة سيكون على الراجح قائد الأركان العامة للجيوش محمد ولد الغزواني الساعد الأيمن لرئيس الجمهورية وشريكه في تغيير 3 أغشت 2005 وحركة 6 أغشت 2008 التصحيحية؛ وسيكون الفريق الغزواني في حل من واجب التحفظ السياسي الذي تميله الوظيفة العسكرية ابتداء من 2018 تاريخ إحالته للتقاعد.
وهذا السيناريو يبدو صعبا لأن الظروف الجيوسياسية المرتبطة بمحاولات إشعال الربيع العربي التي تحدثنا عنها سابقا ربما لا تسمح حينها باعتلاء عسكري سابق كرسي الرئاسة.
استخلاف مدني: ينصرف التفكير إزاء هذا الاحتمال إلى: الوزير الأول السابق الدكتور مولاي ولد محمد لغظف. و رغم الغموض الذي يلف خروجه مؤخرا من القصر و الحكومة هو صاحب رصيد مؤثر فقد واكب الحركة التصحيحية وحشد لها الدعم عربيا وأوربيا وساهم في تجذير النظام ونفذ أجندات المأمورية الأولى بجدارة؛ وكذلك ملفات مثل الحوار ومواجهة عاصفة الربيع العربي وظروف كإصابة الرئيس؛ وعلى المستوى السياسي يتميز بالمرونة التي تجعله شخصا مقبولا حتى من خصومه السياسيين وهو كاريزمي ذو علاقات طيبة وواسعة بالساسة العرب والأوربيين.
لاعب آخر يرغب أن يكون طرفا في الجناح المدني هو السيد يحي ولد حدمين الوزير الأول المنصرف وهو في الوقت الراهن رجل ثقة الرئيس وخزانة أسراره؛ يمسك ملفات بالغة السرية وذات أهمية شخصية بالنسبة للرئيس كما يحلوا له تسميتها في مجالسه الخاصة (ملف النقل – ملفENER- ملف ATTM – ملف المطار)؛ ويقدمه أنصاره خليفة للرئيس محمد ولد عبد العزيز؛ ولا ينفر هو نفسه بحسب مصادر مطلعة من هذا التكليف أو التشريف ؛ نقطة ضعف ولد حدمين كخليفة للرئيس هي علاقته الصدامية بالطيف السياسي الموالي والمعارض وميوله الجهوية والقبلية التي ما فتئت تهمها تلاحقه.
إن التمهيد لمرحلة ما بعد 2019 يجب أن يبدأ من الآن؛ قبل أن يداهم الموعد و تتسارع الوتيرة ولا يبقى متاحا غير احتمالات اللحظة الأخيرة بما يلازمها من عيوب سوء الاختيار والأخطاء التي لا تتكشف إلا بعد فوات الأوان.
لقد بات لزاما على النخب خصوصا نخب الأغلبية أن تستعد لرفع التحدي وتحدد بالتفاصيل ما يلزم القيام به؛ وعلى رئيس الجمهورية أن يوجه إلى بحث السبل الكفيلة باستمرار برنامجه الاصلاحي حتى تحقيق الأهداف المنشودة؛ وقبل ذلك صيانة المكتسبات؛ فتحديات المرحلة المقبلة تستلزم اختيار شخص بمواصفات أقلها إمكانية مواكبة التطور السياسي الإقليمي والدولي الذي لن يكون البلد بمعزل عنه بكل تأكيد.