الانحياز التلقائي المبني على الانتماء ظاهرة عامة تتجاوز حدود المكان والزمان، تجد الباكستاني والهندي، العربي والإسرائيلي، الصيني والياباني، يتبادلان الاتهامات، وكلهم يرى ان الحق على الآخر، ويحمله المسؤولية عن الخلافات ويعتبره المتسبب في العداء والكراهية.
تجد السني يجزم بضلال الشيعي، والشيعي يؤكد العكس، والمنتمون للنظام يرونه فلتة زمانه، والمعارضون يعتبرونه تجسيدا للشرور.
السؤال ما هو السر؟ ولماذا تكاد أن تكون الحالة عامة، ولماذا يطغى الانحياز على المعارف والثقافة والموضوعية؟
قسّم الحكماء العقل الإنساني الى اقسام عدة يمكن اختزالها في ثلاث رئيسية:
الذكاء، وهو سرعة الفهم والبديهة والقدرة على استنباط الحلول واكتساب المهارات الجديدة.
الذاكرة، وتتضمن المعارف التي يتم تحصيلها عبر التجارب أو التعليم.
الهوية وهي التي تجسد انتماءاتنا التي حدد لنا المجتمع والأسرة عبر عملية تلقين مستمرة من بداية حياتنا حتى نهايتها.
تعتبر الهوية المتحكمة في الأقسام الأخرى للعقل، والمسخّرة للذكاء والذاكرة. لذلك نرى الكثيرين عاجزين عن التحرر من ربقتها والحكم على الأمور بموضوعية.
عندما نتابع وسائل التواصل الاجتماعي الهندية سنجد الكثير من الحديث عن الإعجاز العلمي الذي يؤكد صحة الهندوسية وكتبها المقدسة، مثل اكتشاف مخاطر الكوليسترول واعتباره السبب الرئيسي في امراض القلب وأهم مسببات الوفاة المبكرة، مما يؤكد في نظرهم إعجاز التحريم للحوم في ديانتهم.
إنه أوضح مثال على استخدام المعارف العلمية لتعزيز الهوية.
يتكرر الشيء نفسه في مختلف مناحي الحياة، فنراه في القبلية الفجة التي تسيطر على البعض وتجعلنا نتعجب من غلبتها على العقل والمنطق، بل حتى في الانحياز الأعمى لفرق كرة القدم الذي يحول كل قرار للحكم ضد فريقنا لظلم واضح، ويخيل لنا أن كل احتكاك مع مهاجمينا ضربة جزاء.
تشكل الهوية في معظم الأحيان جوهر الخلافات والصراعات. يوميا نرى في مجتمعنا العربي ما يعزز فكرتنا عن ظلم الغرب وانحيازه في مختلف المواقف السياسية، ويرى الغربيون ما يؤكد همجيتنا وانعدام إنسانيتنا في تفجّر الإرهاب واقتتالنا المستمر.
شخصيا ألاحظ بشكل مستمر عند كتابتي عن اعتقالات بيرام ولد الداه المتكررة أن المعلقين البيظان في أغلبيتهم يتجهون الى تأييد كل تصرفات السلطة ضده رغم المعطيات التي تظهر الظلم الصريح أو تعاملها بمعايير مختلفة في قضايا من نفس النوع.
اما الحراطين فتحس فيهم الاستياء من تخدنق الطرف الآخر الأوتوماتيكي وتجاهله لمعطيات الظلم الواضحة.
التعاطي مع القضايا الحساسة بهذا المنطق سيؤدي بالضرورة إلى تعميق الهوة وتعزيز الكراهية والبغضاء.
ترى ما فائدة انحيازنا الأعمى وتأييد تصرفات حاكم مستبد في ظلمه الواضح لبيرام الذي يزيد الهوة يوميا بين الحراطين والبيظان، ولماذا نغضب ونزبد ونرعد في قضايا أخرى أقل خطورة وشأنا؟
وهل يضرنا حتى ان اختلفنا معه ولم نتفق في أي نقطة أن نعارض ظلمه؟
ترى هل يعقل أن من ننتمي لهم دائما على حق وفي كل القضايا؟ وأن الآخر مخطئ على الدوام؟
المشكلة الكبيرة في سيطرة الهوية على أحكامنا وتعاملنا مع القضايا العامة أننا لن نستطيع أبدا تخطي الأزمات وسنسير في طريق مسدود نهايته دوما تفضي للصدام.
العظماء والحكماء والعقلاء هم القادرون على التجرد من هوية زائفة خلقها المجتمع، وكان بالإمكان ان تكون مختلفة تماما لو اننا ولدنا في مكان آخر لأسرة أخرى.