مع نهاية القرن الماضي تبنت أمريكا سياسة العودة إلى إفريقيا، وعززت من تواجدها في القارة السمراء خاصة في منطقة غرب إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. المنطقة البكر التي تزخر باحتياطات هائلة من النفط والغاز واليورانيوم، والذهب. المنطقة التي تتميز أيضا بإطلالتها على المحيط الأطلسي، وقربها نظريا من الأمريكيتين؛ مما يجعل منها منطقة ذات أهمية اقتصادية، وعسكرية وأمنية لأمريكا، وفي هذا الإطار جاء قانون النمو والفرص الأفريقية (AGOA) ، الذي صادق عليه الكونگرس الأمريكي في مايو 2000م، والغرض منه مساعدة اقتصادات دول أفريقيا جنوب الصحراء، وتحسين علاقاتها الاقتصادية مع أمريكا عن طريق إعفاءات ضريبية لصالح صادرات هذه الدولة إلى أمريكا.
لكن تغلغل الصين وبروزها كلاعب جديد، وقوي في القارة خاصة في منطقة غرب أفريقيا، التي تسعى جاهدة إلى إنشاء موانئ كبيرة فيها على الشواطئ الأطلسية قبالة الأمريكيتين دفع لخلط الأوراق في المنطقة، وعزز من احتدام صراع القوى العظمى خاصة الصراع الصيني- الأمريكي على موارد وأسواق القارة، وربما الصراع على على المناطق القارية الجيوإستراتيجية، ونكتفي بذكر ثلاثة مؤشرات على احتدام وتيرة هذا الصراع:
(1)
تغيير الولايات المتحدة لسياستها الاستثمارية في الخارج، و تبنيها لمشروع قانون جديد يدعم تركيز وزيادة الاستثمارات في البلدان النامية خاصة الأفريقية. ففي بداية هذا العام، قام الكونغرس الأمريكي بصياغة قانون جديد يستهدف استخدام أفضل للاستثمارات (Better Utilization of Investments Leading to Development Act, BUILD Act) ، وذلك عن طريق تبسيط، وتعزيز أدوات تمويل التنمية الأمريكية من خلال إنشاء المؤسسة الأمريكية لتمويل التنمية الدولية بقيمة 60 مليار دولار (U.S. International Development Finance Corp) ، وسيؤدي هذا التغيير في السياسة إلى تحديث وكالة تمويل التنمية الأمريكية، والسماح للولايات المتحدة بلعب دور قيادي في التعامل مع الدول النامية بإصدار قروض بشكل منتظم لمشاريع البنية التحتية مثل مشاريع الطاقة، والموانئ، والطرق، وقد صوت الكونغرس الأمريكي على هذا القرار في 3 من أكتوبر المنصرم، وهذا ما يجعل من الولايات المتحدة في المستقبل القريب منافسا قويا للصين في دعم الدول النامية في إنشاء مشاريع البنية التحتية، و يجعل من المؤسسة الأمريكية لتمويل التنمية الدولية في منافسة مباشرة مع مبادرة "الحزام والطريق" الصينية في إفريقيا.
(2)
أعربت مجموعة من 16 عضوا من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكيين في رسالة بتاريخ 3 أغسطس المنصرم موجهة إلى وزير المالية الأمريكي ستيفن منوشين، ووزير الخارجية مايك بومبيو عن اقتراحهم " أن صندوق النقد الدولي (IMF) لا ينبغي دعمه لتقديم قروض للدول التي انضمت إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية. توقيت هذه الرسالة جاء شهرا قبل قمة بكين لمنتدى التعاون الصيني -الأفريقي التي تمخضت عن انضمام 37 دولة أفريقية إلى هذه المبادرة.
(3)
الهجوم الشرس من وزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون أثناء زيارته للقارة في مارس المنصرم على سياسة الصين في القارة، خاصة تصريحاته عن " القروض الصينية الوحشية" ، التي تعرقل النمو في القارة ولا توفر فرص العمل، وتستنزف الإنتاج الزراعي للقارة لتغذية الصين على حد تعبيره، و يبدوا أن تصريحات تيلرسون لقيت آذان صاغية في السيراليون، حيث قام رئيسها الحالي جوليوس مادا بيو بإلغاء مشروع لبناء مطار جديد خارج العاصمة فريتاون تمويله الصين بحوالي 400 مليون دولارا بعد تحذيرات من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن هذا المشروع من شأنه فرض عبء جديد من الديون الثقيلة على البلد الفقير.
اليوم أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عزمه وقف منح موريتانيا مزايا تفضيلية في التجارة وفقاً لقانون النمو والفرص في أفريقيا (AGOA) السالف الذكر، وذلك اعتبارا من فاتح يناير من السنة القادمة.
وأرجع بيان نشره الموقع الرسمي لمكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة هذا القرار إلى نتائج المراجعة السنوية لشروط الاستحقاق المطلوبة ذات الصلة بقانون "أغوا"، وقد ذكر البيان أنه قد تبين للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن موريتانيا " لا تحقق تقدما كافيا في اتجاه التأسيس لحقوق العمال كما هو معترف بها دوليا، وبالتالي فإن موريتانيا غير متوافقة مع متطلبات الأهلية لقانون أغوا، وعلى وجه التحديد لم تحقق موريتانيا تقدمًا كافيًا اتجاه القضاء على العمل القسري، لا سيما بلاء العبودية الوراثية، بالإضافة إلى مواصلة الحكومة الموريتانية تقييد قدرة المجتمع المدني على العمل بحرية لمعالجة قضايا مكافحة العبودية ". لكن ألا يعتبر صرف أمريكا لنظرها عن انتهاكات حقوق الإنسان واستعباده في كثير من أنحاء العالم بحجة حماية مصالحها خير دليل على سياسة الكيل بمكيالين، وابتزاز الدول المتبعة منذ وصول دونالد ترامب إلى السلطة، وهل حقا يهتم ترامب بالإنسان الإفريقي بعد ما وصف في تصريحات له سابقة الدول الأفريقية بأنها "حثالة". أم أن قضية العبودية قد تكون مطية لتركيع الحكومة الموريتانية أمام شركات النفط والغاز الأمريكية !