تابعت باهتمام كبير مسيرة وزير الخارجية الموريتانية، والمسؤول الأممي السابق إسماعيل ولد الشيخ أحمد، أيام كان مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، في محاولة من الهيئة الدولية لتقريب وجهات نظر الأطراف اليمنية المتصارعة.
حاول الدبلوماسي الموريتاني بأسلوبه الهادئ والرصين، وحنكته الدبلوماسية، إيجاد نقطة ضوء في النفق المظلم والبائس الذي دخلة اليمن السعيد، منذ أن اندلعت الثورة اليمنية، وسقوط مهندس الوحدة اليمنية الرئيس الراحل علي عبد الله صالح.
من الطبيعي أن يضع الرجل جميع خبراته تحت تصرف بلده، حين لبى نداء الوطن لتعيينه على رأس الدبلوماسية الموريتانية، في بلد عرف الكثير من الإخفاقات على المستوى الدولي خصوصا فيما يتعلق بعلاقاته مع جيرانه الأقربين، الذين تحتم الجغرافيا قبل التاريخ ضرورة التعامل معهم بما يتطلبه حسن الجوار من معاملة، هذا إذا استثنينا طبعا نجاح موريتانيا فى صنف من الدبلوماسية يعرف بدبلوماسية المؤتمرات الدولية، من خلال تنظيم قمتين إحداهما عربية والأخرى إفريقية خلال السنوات الماضية.
المملكة المغربية واحدة من أولئك الجيران الأقربين الذين تشهد العلاقات معهم حالات مد وجزر، منذ أن تولى الرئيس محمد ولد عبد العزيز الحكم، فلا تكاد تتحسن حتى تسوء، ولا تتقدم خطوة إلا لتتأخر خطوات، تارة لأسباب معروفة وأحيانا كثيرة لأسباب يجهلها المتابع للشأن الموريتاني المغربي ولا يرى لها مبررا على الإطلاق، نجح المغرب فى احتواء بعضها وفشل فى احتواء الكثير، فيما يبدو الجانب الموريتاني غير مكترث.
لقد كان الجانب الموريتاني دوماً يكتفي بتصريحات مقتضبة وجافة تصدر عن الناطق باسم الحكومة، تؤكد عمق ومتانة العلاقات بين البلدين، ولكن اللغة تخونها دوماً فلا تعكس حقيقة الموقف الموريتاني، وذلك ما يصفه المتابعون بعدم وضوح الرؤية السياسية، وغياب الخبرة التى يفتقر إليها المُعيَّنون على رأس الدبلوماسية الموريتانية إبان تلك الأزمات.
الهزة الأخيرة التي عرفتها العلاقات بين البلدين، والتي تبعتها عدة هزات ارتدادية كادت رياحها تعصف بما تبقى من شعرة معاوية ورفاقه من قادة اتحاد المغرب العربي، التي ظنوا أنهم أحكموا غزلها، ليجعلوا منها أساسا لخيمة مغاربية أصيلة، صلبة الأوتاد، تجتمع تحتها جميع أطياف النسيج المغاربي، ويتحد تحت ظلالها الوارفة أبناؤه.
كان ذلك على إثر تصريح رئيس حزب الاستقلال حميد شباط، الذي أعاد إنتاج وجهة نظر حزبه القديمة، الذى زعم فيه مغربيةَ الأراضي الموريتانية، والتي وصفتها وزارة الشؤون الخارجية والتعاون المغربية بأنها تصريحات غير مسؤولة.
أُرغِم الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط على تقديم اعتذار رسمي عبر وسائل الإعلام عن « سوء الفهم » الناجم عن قوله إن موريتانيا جزء من المغرب، و هو ما أكده العاهل المغربي محمد السادس للرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز في الاتصال الأخير بينهما، وأشفع اتصاله بإيفاد رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران إلى موريتانيا لـ « تبديد كل سوء فهم »، التقى به الرئيس الموريتاني في مدينة ازويرات، وبرفقته وزير الخارجية والتعاون الدولي ناصر بوريطة الذي بقي لمدة أسبوع في نواكشوط جاعلا من السفارة المغربية مكتبا لنزع فتيل الأزمة المشتعلة حتى خبا أوارها.
ولكن ما سكت عنه الجميع آنذاك هو أن تصريحات شباط المرفوضة جملة وتفصيلاً وردت في سياق صراع سياسي داخلي مشتعل في المغرب في تلك الفترة، وقد استغلت ضده للإطاحة به وإبعاده من الساحة، كما تم استغلالها بنفس الطريقة في إطار صراع سياسي داخلي في موريتانيا، فاستخدمها الحزب الحاكم لتجييش الرأي العام وشغلهم عن خطب المعارضة وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة.
بوريطه الذي كلف آنذاك بطي ملف تلك الأزمة، هو الذي جاء هذه المرة محملا برسالة من الملك لم يفصح عن فحواها، لكنها بدون شك تدشن لفترة جديدة من العلاقات بين البلدين، قال الوزير فى تصريحات صحفية في نواكشوط إنها تنبئ عن وجود رغبة مشتركة لدى الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، للدفع بهذه العلاقات إلى المستوى الذي تستحقه؛ نظرًا للروابط القوية بين البلدين والشعبين الشقيقين.
ربما يشي وجود بوريطة بسعي الرباط لاستمالة نواكشوط إلى صفها، خصوصا إذا علمنا أن مفاوضات بشأن الصحراء ستنعقد في جنيف الشهر القادم، و قد تكون الرسالة التى حملها وزير الخارجية المغربي استباقا لجولة المفاوضات المنتظرة.
لكن ما هو مجمع عليه كذلك، هو تلك الثنائية المتصارعة التي ظلت تطبع علاقة موريتانيا بجارتين مهمتين هما المغرب والجزائر، والتي تؤكد أن معظم من مروا بوزارة الخارجية الموريتانية يتعاملون وفق مؤشر العلاقة على الجبهتين، وهو مؤشر لا يعدم قراءة كذلك في المغرب والجزائر، مما يشكل فهما نمطيا لما يجب أن تكون عليه العلاقات الدبلوماسية التي يجب ألا تشكل ثنائية متضادة أو متنافرة وأن يُفهم في الجبهتين كذلك أن التوجه في العلاقة مع أي منهما هو خيار وطني مستقل، لا يقبل التأثير على الطرف الأخر، وليس موجها ضده مهما كان نوع التقارب والتعاون والتنسيق.
صحيح أن لموقف الحياد الموريتاني من قضية الصحراء، والذي تسعى موريتانيا لأن يكون حيادا إيجابيا، هو أحد أهم المطبات في العلاقة مع الجزائر والمغرب، ولكن المؤكد هو أن الرؤية الجديدة للدبلوماسية الموريتانية والحراك باتجاه الطرفين هو المستجد في تأصيل الموقف الموريتاني من أقرب جيرانه تاريخا وجغرافيا ونقاط تماس وتجانس، وهو ما يبدو بارزا في المرحلة الجديدة، وتسعى الدبلوماسية الموريتانية لترسيخه في كواليسها، ولم يعد يحتاج أكثر من التفهم والقراءة الصحيحة في البلدين لتتضح الرؤية والصورة مستقبلا.
ومع ذلك ينظر المراقبون للشأن المغربي الموريتاني بتفاؤل كبير لمستقبل هذه العلاقات، بتولى وزير الخارجية الحالي إسماعيل ولد الشيخ أحمد والمغربي ناصر بوريطة الذين يتميزان بأسلوبهما الهادئ في الممارسة الدبلوماسية، ويبدو أن تعاطيهما مع الشؤون الخارجية مختلف عن نظرائهما السابقين، و من الواضح للعيان أن ولد الشيخ استثمر رصيده الكبير من العلاقات الشخصية، وشبكة علاقاته الواسعة فى خدمة بلده لتحسين صورته الخارجية، ولإعادته إلى مبدإ الحياد الذي تبنته موريتانيا في شأن الصحراء.
و يجمع المراقبون على أن الفضل فى التحسن الطارئ في العلاقات المغربية الموريتانية يرجع إلى ولد الشيخ أحمد، الذي تغلب على تلك العقدة النفسية الشائكة، التي رافقت العلاقة بين البلدين منذ استقلال موريتانيا.
و أسلوب الدبلوماسية المباشرة هذا، هو ما يبدو أن قائد الدبلوماسية الموريتانية الحالي ينتهجه كأسلوب يقوم على بناء العلاقات الشخصية وتقويتها بما يخدم العلاقات بين البلدين، وما طريقة الاستقبال الذي خص به الوزير نظيره المغربي عند وصوله فى زيارته الأخيرة إلا خير دليل على ذلك، حيث خالف البروتوكول المعتمد ولم ينتظر نزول ضيفه من الطائرة بل صعد إليه، ليرافقه خلال النزول من سلم الطائرة، ولم ينته الخرق البروتوكولي عند هذا الحد، بل ركبا معا فى سيارة واحدة، فى إشارة واضحة إلى علاقة خاصة تجمع الوزيرين، ربما تنعكس إيجابا على علاقة البلدين.
ولد الشيخ أحمد الذي عرف أروقة الأمم المتحدة، أكبر هيئة بروتوكولية في العالم، يدرك قيمة هذه التقاليد والنُظم، ولكنه أيضاً يعرف الإشارات الإيجابية التي يمكن أن تحمل عمليات خرق هذه النظم البروتوكولية، في مقابل علاقات شخصية تتجاوز الأعراف الدبلوماسية.
أغلب المراقبين يرى أن هذا الأسلوب هو ما كان ينقص سلف ولد الشيخ أحمد من وزراء الخارجية، الذين يمارسون ما يمكن أن نطلق عليه الدبلوماسية الكرنفالية الروتينية دون تحويلها إلى دبلوماسية حميمية ذات مردود إيجابي سريع، فيما يرى البعض أن الخلل يكمن فى العجز الثقافي لدى البعض الذي يحول دون التواصل اللغوي، مع سلوك أخلاقي لدى بعض الدبلوماسيين، يتجسد فى نظرته الدونية للآخر أيا كان.
وعلى كل فإن أنظار الموريتانيين والمغاربة تتطلع لمستقبل أكثر تفاهما وتصالحا بين بلدين شقيقين تجمعها أواصر القربى والدم والتاريخ والجغرافيا، وتفرض عليهما متطلبات التنمية كثيرا من التنسيق والتشاور على مختلف الأصعدة بما يعزز هذه الامتدادات ويحولها لقوة داعمة لكليهما، في عصر تتشكل فيه الكيانات المتباعدة لضرورة مسايرة العالم الجديد وتطوراته، فكيف بدول الجوار ووشائج القربى ووحدة المصير.
فهل تتوج هذه الزيارات الوزارية بتبادل زيارات على مستوى أرفع و أعلى بعد أن أصبح الطريق الدبلوماسي سالكا، ليشفع الملك محمد السادس زيارته الأولى لموريتانيا بثانية، و يكتشف الرئيس محمد ولد عبد العزيز المملكة المغربية و هو رئيس دولة، بعد أن عرفها فى مختلف مراحل حياته الدراسية و المهنية.