البيظان والدولة المركزية / داوود ولد أحمد عيشة

بعد مقال الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريدالليل (غزي الاركاب) ، تسابق الجميع للرد على الرجل وتحليل كل فاصلة من مقاله. وبعد وقت، كان مقال “السلم قبل الحرب” هو الجواب على كل المقالات التي كتبت والتي غلب على أكثرها طابع التطبيل للنظام، دون أن يدرك أصحابها أن مقالات الاستاذ مقالات فكرية بامتياز موجهةللنخبة القليلة التي تستوعب الايحائات الثقافية والأفكار السياسية و الدروس التاريخية التي تحتاج إلي التأمل والغوص في باطن الحكمة.

وبما أن الأستاذ رجل متمرس، خبر السجون والمعتقلات وعايش كل الأنظمة التي تعاقبت على السلطة بل ساهم في التنظير لبعضها لترسيخ حكمه دون الظهور في الواجهة الأمامية أحيانا ولَم يخرج من محراب الحكيم، فقد تمثل بقول المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها@ويسهر الخلق جراها ويختصم.!

وبما أنني لست في سياق الرد على الاستاذ و لست مكلفا بالدفاع عنه، إلا أن المشروع السياسي الذي اعتبر نفسي في واجهته(نداء الوطن) يعتبر أن الأفكار التي يكتبها الاستاذ تساهم في إنارة الطريق من أجل الوصول إلى دولة مستقرة لها دور بارز في منطقتها. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الاستقرار التام في منطقة “اتراب البيظان” و اعتبارها عمقا استيراتيجيا لا يمكن تجاهله من أجل تكتيكات سياسية آنية بل يجب التعامل معها بنظرة استيراتيجية عميقة، لا يمكن أن يحمل لواءها غير المثقفين ذوي المعنويات المرتفعة والذين يستحقون علينا بعض الاحترام ما دام مجتمع الصحراء الكبري يعاني من ضعف الذاكرة ولا يمجد إلا الذين ماتوا وهم مبتسمون. كما أري أن الوازع الأخلاقي يفرض علينا المساهمة ولو كانت أكثر من متواضعة.

إن الملاحم التمجيدية التي خلدت هنون و بكار و محمد لحبيب و ولد عساس في الجزء الجنوبي من الصحراء، هي نفس الملاحم التي خلدت ولد مياره و ولد الباردي و امحمد ولد الخليل في شمالها. و هي التي خلدت الشيخ سيد المختار في أزواد و الشيخ سيديا في آوكار و الشيخ ماء العينين في اسمارة، بنفس الدرجة من الانبهار وبنفس الوتيرة الجامعة لقيم و أخلاق سكان هذا الفضاء الذي تمزق بالإرادة الموحدة للجيران والغزاة دون الرجوع إلى رغبة السكان أو مراعاة خصوصيتهم البدوية الجامحة إلي العزة و الكرامة أكثر منها إلى الدولة والمواطنة.

وعلى الرغم من توق عقولنا دائما إلى الوضوح واليقين، إلا أن طبيعتنا غالبا ما تجد عدم اليقين رائعا . و تلك هي معضلتنا الكبري.

يقول القائد الألماني اكلاوسوفيتز ، “لا غنى عن العقل الذي يحتفظ حتى في أحلك الظروف ببعض من بصيص الضوء الداخلي الخافت الذي يوصلك إلى الهدف، و الشجاعة لإتِّباع هذا الضوء الخافت أينما كان” . والأستاذ دائما يتحلى بالشجاعة ويدلنا على “الضوء الخافت” و لكن الضوء يخفت أكثر إذا تعلق الأمر بدولة البيظان. والشجاعة وحدها لا تكفي للوصول إلى الهدف، لأن الدولة ولدت ناقصة في الأصل ولَم تجد من يحدد مركزها وعمقها وامتدادها. و القضايا الكبرى لا تتحقق ما دام رجال السياسة في مقدمتها لأنها ليست من اختصاصهم، بل هي من اختصاص أهل الفكر والرأي وهنا بيت القصيد.

إن المساهمة الفكرية في هكذا موضوع لا يمكن أن تكون نمطية علي غرار ما يكتب تزلفا أو نقدا للأنظمة المتعاقبة، بل هي تجرد من أجل المساهمة في مصير أمة طالما حكمت الصحراء و رضخت لها المجابات من دون أن يكون لها دستور مكتوب ولا سلطة مركزية قائمة ومع ذلك لم تستكن ولَم تتبع لأي سلطة خارجية.

إننا اليوم في أمس الحاجة إلى حوار فكري متنور يأخذ بعين الاعتبار كل المشاكل القائمة والتطورات الجديدة لكي يقودنا إلى الجواب على سؤال طال ما طرحه سكان الصحراءالكبري خاصة في العشرية الاخيرة : من نحن والى أين نسير؟

وفِي الأجوبة المنتظرة على السؤال ، فمن المؤكد أننا لسنا مغاربة و لا جزائريين كما أننا لسنا ماليين ولا سنغاليين . و لسنا بطبيعة الحال من كائنات المحيط، كما أننا لا نسير بأنفسنا إلى الاقتتال و الانعزال بما يفرض علينا أن نكون طرفا في قضية الصحراء وقضية أزواد. و على جيراننا (الأشقاء) أن يتفهموا أن موقفنا لابد أن يكون إيجابيا لصالح أقلياتنا المتواجدة في حدود لا نملكها قانونيا ولكنها أرضنا بالتاريخ وسكانها جزء لا يتجزأ من شعبنا. لقد كنّا جزء من المشكلة بغضنا الطرف عن أزواد في الستينات و تنازلنا عن الصحراء الغربية في السبعينات و سنظل جزء من الحل بوجود أغلب السكان التاريخيين للأرض في بلادنا و بحكم القرابة والمصير المشترك للسكان. لذلك، لابد من التنبيه على أن مفتاح القضيتين موجود في انواكشوط و التي لا يمكنها أن تفرط في عمقها الاستيراتيجي وامتدادها التاريخي المرتبط بتقرير مصير هؤلاء السكان من الناحية السياسية. و سيظل من واجبها (نواكشوط) العمل على خلق فضاء مؤقت للمِّ شمل الأسر المشتتة من الناحية الانسانية و المطالبة بوحدة قومية و اجتماعية و مرجعية إفتائية موحدة، لكي نساهم في استقرار المنطقة و ازدهارها و انسجامها.

و ليس من الحكمة أن نجرب صبر سكان الصحراء لأن طموحهم لن يتوقف قبل الوصول الى “بواتييه” (Poitiers )حيث وصل ابن تاشفين ذات يوم قادما من هذه الصحراء.

7. نوفمبر 2018 - 11:34

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا