تزعجني أيما إزعاج تلك الصور و الأشرطة السينمائية التي صووها و أنتجها المستعمر لخدمة أهدافه و تبرير وجوده كـ"صابغ" للحضارة الحديثة على بلد يتشكل بفضله من خضم "السيبة" أو اللا دولة.
صور و أشرطة حية لجنود اكتتبهم من رفات ناس البلد فأطرهم و كونهم و اختار لهم اللبس و أوجد السلاح و أجرى لهم تدريبات وتمرينات مكثفة مثلت المعارك و عودت على الانضباط، و قد أخذها مترفو تاريخ الجهاد و بعض مزوريه من المقتاتين عليه فأوهموا بالإدعاء السافر أنها للمجاهدين و هم يوجهون ضرباتهم للمستعمر، إنه أمر مشين ينعكس سلبا على الجهاد ـ و هو أسمى من المقاومة ـ الذي لم يهتم لتصوير معاركه التي كانت خالصة لوجه لله و للجهاد المقدس علاوة على أنه لم يكن يمتلك وسائل التصوير و التوثيق الحي.
و إنه مراعاة للشعور الوطني و صدقا مع التاريخ و احترام للمجاهدين الذين قضوا لا بد من الكف عن مثل هذه المتاجرة بالجهاد و وضع صوره الخالصة في الأذهان و على الألسن و في الأسطر الصادقة التي دونت و تدون للأمانة التاريخية و إحياء الأحداث بالكلمة الصادقة و الصورة الذهنية المحردة من كل علامات المراء و التهويل.
فهل نتخطى العقد؟
عندما شاهدت أفلاما عن حرب 14/18 بالأبيض و الأسود تذكرت أننا حينها لم نكن نعرف الأسلحة النارية المهنية، و لا الكهرباء و لا المركبات البخارية، أو الميكانيكية، و لا الانضباط و النظام و لا حتى جوهر دولة أو إمارة أو مملكة أو سلطنة مركزية لها حدود و قوانين جباية و سلطة تنظيمية. كما تذكرت أنها السنوات التي كان الأوائل يطلقون عليها "عمان العرية" أي سنوات العري لتوقف وصول القماش من أوروبا و نحن شعب لا ننتج. ثم تذكرت كذلك و أنا أتابع الشريط أن ما يتغنى به المدعون الدفاع عن المقاومة و المخولون كتابة تاريخها لا يقرأون بين السطور و لا يميزون بين الواقع و الخيال فبدل أن يفصلوا بين ما كان من جهاد بعض الآباء غيرة على معتقدهم و ما سطروه من رائع الصمود في وجه الشوائب و بين ما ميزه بعضهم الآخر و بذكاء نادر من ضرورة قبول ما سخره لهم خالقهم على يد أعدائهم في الملة مشكلين تيارا آخر لا يقل غيرة على المعتقد و على مسطرة السلوك الديني و الأخلاقي فوفق بين الرفض و القبول في نظرة ثاقبة قدرت الآخر و جعلته ظهيرا في مساره مع المستعمر إلى الدولة المركزية المشتهاة و خروجا من أطوار السيبة المراوغة بمظهر الدين و ظهير الجاهلية في التقسيمات القبلية و مداركها من الطبقية الاستعبادية و الدونية. فهل نتجاوز العقد و نوفق بين التيارين في هذا المنعطف الدقيق الذي نحتاج فيه إلى مرجعية تاريخية متصالحة مع ذاتها فنعطي في حياد الرابح لتياري تاريخ البلد في مرحلتي الاستعمار و الدولة الناشئة كل الاهتمام لاستخلاص نقاط القوة منهما و بناء الحاضر بثبات و ثقة؟
و هل نعترف بضعف المنطلاقات التاريخية؟
و إذ التاريخ ليس ملحمة هوميروسية تنضح بالخرافة، فإنه كتاب منهجي يطل منه أي قارئ إلى خصوصيات الشعوب و عظمة البلدان و مكانتها في مجرى التاريخ، و منه بالاتجاه العكسي على تخلفها و خرافيتها و
يتقاطر في هذه الأيام زعماء العالم على فرنسا لمشاركتها الاحتفال بأحد أهم فصول نهاية الحرب العالمية الأولى لاستخلاص الدروس رغم مرور مائة عام عليها. سيزور هؤلاء شواهد حية حفظت بعناية و غيرة كالعربة من القطار التي وقع فيها الالمان و الفرنسيون وثيقة انهاء المعارك و كبقايا ماثلة من معركة طاحنة.
و يجري تخليد الحدث في أجواء من حرية الرأي من حيث قراءة التاريخ و تأويل أحداثه و قد أثار الرئيس ماكرون ضجة بتصريه المزدوج عن المارشيل بتان Pétain القائد العسكري الفذ في الحرب الأولى و الموقع هزيمة فرنسا في الثانية.
فهل نتجاوز عقد ضعف المنطلقات و ضغط أسانيد الخرافة و الادعائية؟
و هل سنتملك لتاريخنا مثل هذه القدرة على الجمع و التثمين؟
و هل سنتحلى من الأريحية كذلك بما يمكن من تناوله بتجرد و علمية لتحقيق قفزة مفتقدة إلى حاضر ما زلنا عنه في صمم و في عمى؟