الموريتاني بطبعه ميال إلى اجتناب الاصطدام، عكس سكان الصحراء المعروفين بشدة البأس والثأر للكرامة، وهذه الخصوصية التي ميزت ساكنة هذا الركن القصي من الصحراء الكبرى كانت عاملا مهما في دخول الاستعمار إلى هذه الربوع بسلاسة دون مقاومة تذكر.
وقد ولدت هذه "المسالمة" أو الخوف على الأصح ما يعرف بثقافة "المكاتبة" محليا والتي تعني إعلان البيعة والولاء الأعمى للمستعمر، الذي نحتفل هذه الأيام بذكرى رحيله الطوعي الـ48..
***
ومع رحيل الاستعمار سار الموريتانيون في تعاملهم مع الأنظمة الحاكمة على نفس النهج، فكانوا يعلنون البيعة والطاعة دون شروط لكل حاكم جديد.. لهذا كان التلون أهم ميسم في حياة الطبقة السياسية في البلاد، ربما لأننا فشلنا في تكوين نخبة سياسية تؤمن بالوطن قبل قادته، وتستشرف المستقبل بنظرة أكثر شمولية، وتعمل للبناء بدل الهدم..
ولعل مبادرات دعم ولد الطائع صيف 2003 بعد فشل انقلاب الـ8 يونيو، ومن بعده سيدي ولد الشيخ عبد الله في رئاسيات 2007، وانتهاء بالمجلس الأعلى للدولة الحاكم حاليا أصدق تعبير عن إفلاس هذه النخبة المتلونة عبر الحقب والأزمنة..
***
عند ملاحظة تذمر أي كان من اي تصرف أو موقف كان يجابه بكلمة واحدة وهي أن "الحكومة لاتعاند" أو أن طاعة ولي الأمر واجبة بنص الحديث "..وإن تأمر عليكم عبد حبشي" أو "سبعون سنة تحت سلطان جائر خير من ساعة بلا سلطان" وهذه الأحاديث والأقوال المأثورة في هذا الصدد كانت أهم عامل ساعد على قمع الثورات القومية في العهد العثماني، وكان الخطباء يرددونها مع الدعاء للأمير على المنابر في أيام الجمعة، وهي على ما يبدو ما حفظه الموريتانيون وتمثلوه من التاريخ الإسلامي، ولهذا قد لايستغرب الدارسون غياب فقه الجهاد عن المناهج التعليمية في أغلب المحاظر الموريتانية القديمة.
***
يقول أحد قادة الحملات الاستعمارية في البلاد إنه أرسل إلى قيادته بعدم شحن الأسلحة إلى الحاميات الفرنسية في موريتانيا واستبدالها ببعض النقود والهدايا لأنها ستكفي الفرنسيين مؤونة القتال..
وقد أفتى عدد من العلماء حينها بحرمة قتال القادمين من وراء البحر لأنهم ساعدوا في استتباب الأمن ولم يحاربوا العقيدة، وتركوا الناس ودينهم، وهي فتاوي أعيى الفرنسيين الحصول عليها في أي مكان من العالم، حتى في افيتنام واللاووس، وغيرها من الشعوب التي لاتدين بشيئ، لكنها مراجعها وقياداتها الاجتماعية أجمعت على قتال الغزاة، دون كلل، وشكلت محاكم شعبية لإعدام المتعاونين مع المحتلين في الساحات العامة..
حدث ذالك في بلاد اللادين، وحدث عندنا في بلاد المحاظر والجامعات المتنقلة عكسه تماما.. ولله الأمر من قبل ومن بعد..
وكل عيد استقلال ونحن "مكاتبون".