الإرادة الجمعوية لا يؤثر عليها الاختلاف أبدا بل هو مكملٌ لها ، وهي الضامن للقوة مهما كان منفذها والفاعل فيها ومهما تعددت هويات الفاعلين فإن ثمة رابط فوقي يحدد الهدف في ظل تنظيم مكثف للاختلاف بما يخدم المصلحة العليا ، وهو أمرٌ انتبه إليه كثير من القادة من أهمهم عمرُ بن الخطاب فتوسع ملكه حتى شمل العراق كلها وفارس والشام ومصر ، ونابليون بونابرت فوحد فرنسا على اختلاف إثنياتها وثقافتها حتى تستطيع اللحاق بغريمتها التقليدية "انجلترا"، يعني أن فاعلية الشخص في إطار الحضور الكلي للجماعة وتعاقدها في نظام معين وضمن أهداف ومبادئ معينة تظل محدودة جدا ، فلا يستدعي النجاح تقديسه ولا تمجيده دون الجماعة وفاعليها ، التي من المستحيل أن ينجح المشروع دون إيمانها به وسعيها فيه لأنها الحاضن الرئيسي له والقاعدة الأوحد والأساسية التي يبنى فيها أو ينطلق منهلا ، وإن أعدمنا ذلك فعلينا جيدا أن نخاف أو نحظر من مستقبل جماعة لأنها تعيش دون وعي ودون هدف في فضاء متلاطم وأمواج مضطرمة جدا وعالم لا يرحم أبدا.
ونحن في موريتانيا نعيش على منهجيين اثنين لا ثالث لهما ، واحد يمجد السلطان ويؤلهه ويعتبر أنه أساس حياة الجماعة كلها وهو المتنفس الوحيد لها والضامن لاستمرارها ، وهي كلمات سمعناها مرات عدة لقادة اختلفوا على حكم بلادنا ، وآخر يمجد الطرف الثاني "المعارض" ويعتبره الخلاص الوحيد فهو المتنفس الذي يهرب إليه كل طامع أو صاحب مصالح محروم ، ولا نسأل بعدها عن الشعارات الغناء لأنها بلا مدلول ولا مصداقية ، فالشخص الملتزم الذي يعيش في بيئة موبوءة لا بد وأن يتأذى ولو بعد حين
وغير بعيد جدا عن ذلك فأهم شرط في العلوم الاجتماعية لتحقيق الموضوعية هو أن نربط الموضوع المدروس بسياقه الاجتماعي العام لكي نفهم أصوله وفروعه ومراحل تشكله كلها والثغرات المختلفة التي تجتازه من لحظة لأخرى ، أي أنه لا يعقل في مجال النقد السياسي قياسا على ذلك أن ننتقد رئيسا أو نظاما ولا حتى شخصا مناوئا للنظام دون الإحاطة بمحيطة الاجتماعي والنظر في طبيعة عقليته وفكره.
وهذا أمرٌ أهم ما فيه أنه قد يبعدنا قليلا عن شخصنة الأمور التي لا تخدم المصلحة العامة أبدا ولا تفيد سوى في كونها تمس من شخص إنسان معين نحن في غنا عن الإساءة عليه ، في ذات الوقت الذي يعني فصل الشخص عن فعله والاهتمام بفعله دون شخصه نقدا وإيضاحا وتفنيدا أو تصديقا ، على الأقل كي ننقذ فضاءنا الاجتماعي من السذاجة ونترفع به إلى المستوى المطلوب ، فلا يُرد الفعل السيئ بمثله ، وليس لحذقٍ أن ينكر الإسراف في الإفساد والفساد في الوقت الذي يسرف هو بالإساءة والتجريح.
فالاهتمام بالمواضيع دون الشخوص أوجب للإتباع وهو أمرٌ يبدو أنه مفقود جدا في أيامنا هذه بموريتانيا الحبيبة فلو تكلم مناوئ ما يُرد عليه بأقبح أنواع الإساءة والتجريح ، كذلك عندما يخطئ مسؤولا أو يسرق يفعل معه نفس الشيء بل يُذهاب إلى أبعد من ذلك حيث التشهير بعرضه وشرفه.
فبدلا من ذلك ألا يجبُ علينا أن ننظر في ذواتنا الاجتماعية ونتكلم عنها من نحن؟ ولماذا الحاجة الإصلاح؟ ولماذا يجبُ الترفع عن بذيء القول وسفاهة الكلام؟.
فبالنظر إلى المحيط الاجتماعي ككل لموريتانيا فإنه هناك صبغة من التعدد شكلا ومضمونا في المجتمع هي من ترسم شكل اللوحة الكلية لمجتمع الدولة ، قيمٌ شتى وأعراف متضاربة ، وعادات كثيرة ، وإثنيات مختلفة ، ولا شيء يضم كل ذلك سوى الجغرافيا والتبعية لسلطة واحدة ، حتى اللسان مختلف وهو أساس الثقافة .
وهي مسألة في طبيعتها تطرح إشكاليات عدة ،ونحن نعيش أيام الاحتفاء بالاستقلال وذكراه الطيبة يجدر بنا التنويه إليها عسانا نفكرُ ولو قليلا في حلها ، لأنها تطرح مشاكل عدة منها ما هو واقعي يتعلق بطبيعة التعايش وآليات العلاقات الاجتماعية وتناسقها تبعا للشريحة أو الإثنية ، ومنها ما هو مستقبلي أكثر إلحاحا للحل وخطورة إن لم يتدارك.
وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الدولة تفتقر إلى برامج جيدة لها أهداف معينة تسعى من خلالها أو من أجل الحصول عليها إلى تكييف البنيات الاجتماعية وتغيرها بما يتماشى مع تلك الخطط والأهداف ، تماما كما تفعل أي دولة استعمار أو أي شخص لديه فكرة معينة يحبها أن تتحقق فيبثها في القلوب والعقول ويتركها تُشكل الناس على هيأتها بما يرضيه هو ويحقق لها أهدافه ، كما فعلت فرنسا معنا عندما حاولت جاهدة محاربة المحاظر - التي كانت من أعظم ما وقف أمامها – ونشر ثقافة التمدرس بين المجتمع ، فبالرغم من أن المجتمع عادها أولا واحتقرها إلا أنها بقت بحجة توجه العصر لها ، ولأن من يحملها كان لديه هدف هو خلق كادر بشري يستطع التعامل معه ضمن الإدارة الاستعمارية وبعدها ، فقد ترك أبناء الدولة أو المجتمع يفعلون ويصححون ويحاربون بصمت تام ما عجزوا هم عن محاربته.
فلو كان للدولة هدف لاستطاعت أن تغير على الأقل قليلا في حدة هذه التراكيب الاجتماعية المختلفة وتوحدها ضمن هوية واحد لا أن تترك المجتمع الذي تدير وتسير في هويات متجزئة وميالة إلى الاختلاف والتفرد ، كما الحراطين والزوايا وحسان ، والسونوكي والبولار...
فمع أن الحاكم يخرج من مجتمع سير بخطاه وعاداته وأعرافه وما يرى فإن الإرادة والإيمان بالأمور قد يجعل كل ذلك في متناول هذا السياق الذي تحدثنا عنه هنا كالحلم لا أكثر ، فليس الحاكم إلا بن بيئته إن كان مفسدا فهي من سمحت له بذلك وأفسدته وابن نظرة أهله للأمور وتعاملهم معها
فنحن الآن في أمس الحاجة إلى تعاقد جديد من نوع جديد لكي نضمن الاستمرار الذي بحكم هذه المتغيرات أصبح مطلبنا الملح في اللاوعي ، فليس مقنعا أن نحتفل بميلاد دولة هي لا زالت تعيش وضعا كهذا ، مجسد في إثنيات تفتخر بهويات وألسن مختلفة وتفاضل اجتماعي على أساسيات عدة منها الجينالوجي ومنها غيره ، فضلا عن ألسنة كاللهب تحصد وتنقد ولا تعرف إلا شخصنة الأمور وإبعادها عن سياقاتها العامة.