للأسف، لم أتمكن خلال زيارتي الأخيرة للرباط، من أجل المشاركة كمتحدث رئيسي في «منتدى الأمن الإفريقي«، من زيارة أستاذي المبجل الفيلسوف المتصوف البروفسور طه عبد الرحمن، أطال الله بقاءه.
لكن المفاجأة كانت سارة عندما أتحفتنا الخطوط الملكية المغربية عند مدخل الطائرة -كعادة كبريات شركات النقل الجوي- بباقة متنوعة من الصحف المغربية الصادرة في نفس اليوم. ولحسن الحظ، وجدت بينها عددا من صحيفة «العلَم« ينشر ضمن صفحته «منبر الجمعة« حلقات متسلسلة من ثلاثية الفيلسوف طه عبد الرحمن، «دين الحياء: من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني«، التي صدرت أجزاؤها الثلاثة عن المؤسسة العربية للفكر والإبداع في بيروت، سنة 2017.
ذكرتني هذه الحلقة من الفصل السابع من الكتاب الثاني في الثلاثية، والذي عنوانه « دين الحياء: التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال»، بعوالم الفيلسوف المجدد، المبدع، أطال الله بقاءه، البروفسور طه عبد الرحمن، عندما كنت طالبا متواضعا لدى حضرته الفاضله، في الدراسات العليا بقسم الإبستيمولوجيا بجامعة محمد الخامس، أواخر ثمانينيات القرن الماضي..
فلأستاذنا الجليل البروفسور طه عبد الرحمن، أطال الله بقاءه، عوالمه الفكرية والمعرفية والروحانية الرحبة والثرية والعميقة، التي تشكلت على مدى أكثر من خمسين سنة من العطاء الفكري والمعرفي النوعي، الذي لا ينضب ما شاء الله، وقد صدرت له حتى الآن قرابة ثلاثين مؤلفا من بينها أربعة كتب نشرها في السنة الماضية.
باختصار شديد، يعتقد المفكر والفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، بأن المسلمين قد وقعوا في مأزق تاريخي عندما خانوا «الأمانة»، التي هي مفهوم يتأسس عنده على ما يسميه بـ «النظرية الميثاقية» التي تقوم في أساسها على «مُواثقة تمت في عالم الملكوت، وحصلت بين الإنسان وخالقه، وليس بين الإنسان والإنسان، كما في النظرية «العقد الإجتماعي» لدى فلاسفة التنوير الغربيين؛ فهو إذن عقد روحاني، وليس عقدا اجتماعيا.
وتنقسم هذه «المواثقة» الروحانية لدى فيلسوفنا الكبير، إلى ميثاقين رئيسيين هما: «ميثاق الإشهاد» الذي أقرّ فيه الإنسان بربوبية خالقه لمّا تجلّى له بأسمائه الحسنى؛ و «ميثاق الائتمان» الذي حمَل بموجبه أمانة القيم التي تجلت بها تلك الأسماء الحسنى.
وبناء على هذا التوصيف، يقترح الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، على الأمة الإسلامية تبني الخيار الأمثل من أجل الخروج من المأزق، بالرجوع إلى «أخلاق الحياء»، التي يولدها في سلوكهم «الفقه الائتماني»، والحال أن تلك العودة المؤملة، تقتضي مراجعة واعية لمنظومة «الفقه الائتماري» التي سيطرت على مسار النظر في الشرع طيلة القرون التي خلت، بما طغى عليها من انغلاق، وتعصب، وجمود في التعامل الفكري مع جوهر الإسلام كآخر رسالة سماوية موجهة لإنقاذ البشر.
أما في كتابه «دين الحياء: التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال»، فيتطرق الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، إلى تحليل ثلاث ظواهر تفرضها ثورة الإعلام والاتصال على المجتمعات المعاصرة، يعتبرها آفات رئيسية هي «التفرج» و«التجسس» و«التكشف».
وتنبع فلسفة البروفسور طه عبد الرحمن، في معالجته الفكرية الرائعة هذه، من غلبة فكرة أن «الإنسان المعاصر» فاقد للحياء أو مهدد بفقدانه، والتي كان لثورة الإعلام والاتصال نصيب كبير في تشكيلها. ولعل هذا الموقف هو الذي وجه اهتمام الفيلسوف الكبير نحو تسليط الضوء على أهم الأطروحات الفلسفية التي تقف وراء انبثاق هذا «النموذج الخُلُقي الذهني» للإنسان المعاصر فاقد الحياء أو المهدد بفقدانه، وهو يخصَّ بالذكر نظريات التعاقد الاجتماعي التي أخرجت الإنسان من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية، عبر ما اصطلح عليه طه عبد الرحمن بـ «النظرية العقدية»، والتي يقابلها بأطروحته «النظرية الميثاقية» كما أسلفنا.
ويتطرق الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، في كتابه « دين الحياء: التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال»، إلى تحليل ظاهرة «التفرج» بوصفها تضبط علاقة الإنسان المعاصر بالشاشة، حيث يحدد الفيلسوف للتفرج جملة من الخصائص المميزة هي: التوسط بالصور، وتملك المصوَّرات، وتضرُّر القدرات، وإبدال الوهم بالحقيقة، وعنف الصور؛
أما الآفة الثانية أي «التجسّس»، فيعتبر الفيلسوف بأنها تتجسد من خلال عدة خصائص منها الغلو في المراقبة، والنفوذ إلى باطن الإنسان، والنفوذ إلى الحياة الخاصة، وطلب الإحاطة بكل شيء، والرغبة في التحكم بكل شيء؛
أما الظاهرة الثالثة التي هي آفة «التكشف» فهي تتحدد من خلال عدة مظاهر منها التكشف الإحاطي، والتكشف العمومي، وإبداء الكل، وإبداء الباطن، وحب الوجود، وحب الذات، واستهواء الآخر.
يقول الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن- الذي يعتبر أن الحضارة المعاصرة، لَمّا كان أحد وجوهها الرئيسية أنها حضارة «النظر»، فهي قد نقلت الإنسان المعاصر من وضعية الناظر إلى وضعية المتفرج، إذ اتخذ المتفرج الصور واسطة يتوسل بها في علاقته بذاته وعلاقته بالعالم وعلاقته بالآخرين، حتى كأنه لا شيء في العالم إلا الصور، ولا شيء إلا بها، ولا شيء إلا معها- إن الخاصية الأولى التي تميز التكشف المعاصر، تكشفا عينيا كان أو ذهنيا، هي أنه تكشف كلي من جهتين، إحداهما أنه «تكشف إحاطي» «والثانية أنه «تكشف عمومي».
والمقصود بالكشف الإحاطي هو تعاطي المواطن إبداء كل شيء من خاص حياته، جسيما كان أو نفيسا. فضلا عن ما يبدو من عامها، بحجة أنه يمارس حقه في الحرية، ويلبي رغبته في الصدق، والواقع أنه لولا أن الشاشة قد بلغ استحواذها على نفس المواطن مبلغا فاحشا، حتى عاد لا يرى العالم، بل لا يرى نفسه، إلا من خلالها، ما كان ليندفع في مثل هذا التكشف الذي يحيط بكل شأن من شؤونه.
ويسوق الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، مثالا في هذا المجال، من خلال حالة الطالبة الأمريكية «جينيفر رينغلي» ذات التسعة عشر ربيعا، والتي يعتبرها رائدة «التكشف العيني الإحاطي»، وهي التي ثبتت في غرفتها، كاميرا متصلة بشبكة الإنترنت، وظلت طيلة سبع سنوات من 1996 إلى 2003، تبث بشكل حي ومباشر حياتها على الهواء بكل تفاصيلها اليومية العادية وكذا الحميمية. وقد بلغ عدد الزوار لموقعها حوالي خمسة ملايين يوميا.
أما «التكشف العمومي» فالمقصود به عند الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، هو تعاطي المواطنين التكشف بعضهم لبعض، بحيث يتكشف الجميع للجميع. فلم يعد التكشف خاصا بنجوم الفن أو أبطال الرياضة أو رموز السلطة، أو أرباب المال، بل بات يشمل العامة من الناس أسوياء كانوا أم شواذ، بحجة أن الجميع يتمتع بحق الظهور على الشاشة.
يقول الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، بأن الوصف الكلي الذي يتصف به هذا التكشف ينبئ بأنه لا يمكن الوصول إليه إلا بتعدي الحدود.. سواء كانت أحكاما قانونية، أو قواعد مجتمعية، أو عادات ثقافية، أو قيما أخلاقية، حتى أن هذا التعدي أصبح السمة المميزة له.
ويبين الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، ذلك من خلال محاججة توضح أنه ليس كل شيء ينبغي كشفه.. لأن ضررا متيقنا قد يعود على الذات أو على الآخر بسب ذلك، وكشف ما فيه ضرر مستيقن إنما هو تعد للحدود.. كما أنه ليس كل إنسان ينبغي أن يكشف ما عنده.. لأن ما عنده قد يخصه، ولا يتعلق منه شيء بغيره.. وكشف ما يخصه بغير موجب هو إسراف في الإبداء، ولأن ما كل إنسان ينبغي أن يكشف له عن ما يكشف لغيره.. لأن في هذا الكشف انتهاكا لخصوصية فرد بعينه أو جماعة بعينها.. وانتهاكا لخصوصية الآخرين، فهو أيضا إسراف في الإبداء..
ولما كانت الصورة، التي هي قوام التكشف، مباشرة كانت، كما في «التكشف العيني» أو غير مباشرة، كما في «التكشف الذهني»، تتوخى بالأساس، مصادمة الوجدان وإثارة الإنفعال، ازداد هذا الإسراف سوء على سوئه..
ولعل ذلك هو السبب الرئيس كما يقول الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، في بروز فضاء تدويني واسع على الشبكة العنكبوتية هو عبارة عن حياة اجتماعية افتراضية مشتركة بين أفراد لا يتلاقون أبدا، حياة ملؤها التكشف على كل الأنحاء، إن تبادلا للصور أو تناقلا للأخبار، أو إفشاء للأسرار، جاعلين من الشاشة مرآتهم التي يتراءون فيها، ونافذتهم التي يتواصلون بفضلها.
وهنا يلتقي الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن في مثاقفة رائعة مع أعمال فلاسفة معاصرين أفذاذ مثل ميشيل فوكو، وهربرت ماركيوز، ويورجن هابرماس، قد اشتغلوا على التحديات القيمية والأخلاقية المرتبطة بثورة الاتصالات السائدة في العالم، وربطوها بتفسيرات مختلفة سياسية مثل خدمة الإستبداد، أو اقتصادية مثل هيمنة السوق على المجتمع الإستهلاكي، أو تكنومجتمعية مثل عولمة المجال الإنساني من خلال سيادة منظومات الأتمتة السيبرانية.
ويخلص الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، إلى أن الإنسان من حيث هو، ينزع، بموجب القيم التي تحملها فطرته، إلى إخفاء بعض الجوانب من حياته، بدءا بقضاء حاجته الطبيعية وانتهاء بقضاء وطره الغريزي.. لكن الإنسان يبقى بالنسبة له من حيث الماهية، ثابتا ولو نسبيا، على ما كانت عليه فطرته السليمة منذ أن كان عند الخليقة..
بطبيعة الحال، لا يزعم الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، عند تحليله للتحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال، بأنه أول من اشتغل على التحديات القيمية والأخلاقية المرتبطة بثورة الاتصالات السائدة في العالم بأسره، وإنما يستشهد بعدة أعمال مرجعية يعود لها السبق في هذا المجال، بل إنه ينوه ببعضها كما ذكرنا سابقا، ولكن الجديد في اشتغال الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن ــ وهو جديد مرتبط بمقتضى المجال التداولي الإسلامي ــ أنه يشتغل على التعريف بالفوارق الجلية بين تفاعل الفقيه «الائتماري» والفقيه «الائتماني» مع هذه التحديات، وهذا التنظير- حسب ما توصل إليه كثير من الباحثين- إنما هو طرح فكري جديد غير مسبوق، بل إن تفصيل الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، في مقتضى ثلاثية آفات التفرج والتجسس والتكشف، يتضمن اجتهادات ثقافية جديدة كليا لم يوجد لها أثر حتى في الاجتهادات الصادرة في المجال التداولي الغربي.
أطال الله بقاء أستاذنا الجليل، الفيلسوف والمتصوف البروفسور طه عبد الرحمن.. ونفعنا بعلمه الوازن وخلقه الرفيع..
------------------
محمد السالك ولد إبراهيم
انواكشوط، 26 نوفمبر 2018