مرة أخرى تتوالى فصول المأساة ..تسيل الدماء و يرحل الشهداء فى صمت داخل أو خارج أرض المعركة ..ليس مهما.. المهم أن يقطف القادة و"المشاييخ" وأصحاب القبعات الحمر "ثمر" الهزيمة ،وللراحلين والمكلومين بشرى بيوم النصر الموعود فدماء الجنود أساس بنيان القادة!!.
مرة أخرى تعلن وسائل الإعلام الخارجية عن مأساة جديدة فى أرضنا العزيزة ..قتلى بالجملة وجرحى بالعشرات ومفقودون يعتقد أنهم أسرى بيد الجانى و"قاعدة" يسر الله على يديها مفتاح النصر المنتظر من قبل "القادة" كلما أدلهمت الخطوب وحانت لحظة الحقيقة وشعر "الأمير" (أيا يكن) أن أيام ملكه بدأت فى الانحسار،وان الشعب قرر استرجاع قراره طمعا فى الإفلات من قبضة المطالبين بالحقوق.
إنها الخيبة والمأساة والألم الذى يشعر به كل شريف فى موريتانيا بعد عملية "لمغيطى" و"تورين" و"الغلاوية " و"تفرغ زينه".. بعد أن ضاق الجميع بهوان النخب وضعف المؤسسات وجشاعة الشعب الذى تمرر المخططات من فوقه رأسه ويذبح أبنائه كما تذبح الخرفان لا لجبن أو منقصة ولكن لقلة السلاح والعتاد والتدريب وغياب المناصر والدليل أوقات الأزمات وضعف القادة .
سياق المعركة
لم تكن عملية "تورين" أول عملية ولن تكون الأخيرة وفق المعطيات المتوفرة بسبب الصراع المفتوح داخل وخارج موريتانيا لكنها الأصعب على النفس والأكثر لبسا على الفهم والأدق من حيث التوقيت والسياق وإن كانت النتائج مشابهة لما حصل ويحصل كلما أشتدت أزمات موريتانيا الداخلية ودخل الشعب فى صراع مفتوح مع الحاكم وهو مايثير أكثر من سؤال؟!.
فعملية "تورين" التى تتجه الجهات الرسمية والإعلامية إلى إلحاقها بالجماعة السلفية للدعوة والقتال ذات الطابع الدموى لم تكن مفاجئة بل أكون صادقا إذا قلت أنها كانت متوقعة من قبل النخبة الفكرية والسياسية لما سبقها من أحداث وتسريبات مهدت لهكذا وقائع!!.
ورغم أننى واثق كل الثقة أن موريتانيين داخل تنظيم القاعدة أو خارجه كانت لهم اليد الطولى فى رسم المشهد الدموى الذى تناقلته وسائل الإعلام غير الرسمية إلا أننى متأكد فى الوقت ذاته أن المشهد ليس بتلك الصورة التبسيطية التى حاول البعض رسمها بعيد الإعلان غير الرسمى عن العملية التى هزت الشارع الموريتانى وخلفت العديد من القتلى أو الأسرى أو الاحتمالين معا فى ظل صمت سلفى مريب.
ودون الخوض فى التفاصيل دعونا نتأمل بعض ماجرى قبل الواقعة بأيام قليلة :
1- إعلان الخديم ولد السمان الزعيم المفترض للجماعة السلفية للدعوة والجهاد فى موريتانيا عن نيته فتح باب الجهاد ضد الحكام الجدد وإدانته للإنقلاب الذى قام به الجينرال محمد ولد عبد العزيز بدعم من أمريكا وفرنسا وفق البيان الذى سرب من قيادة أركان الدرك حيث يحتجز عناصر الجماعة السلفية للدعوة والقتال المتهمين بالضلوع فى مواجهات نواكشوط أو الهجوم على السفارة العبرية والوقوف وراء مقتل السياح الفرنسيين فى موريتانيا نهاية العام المنصرم، دون أن نتوقف مع إمكانية تسريب بيان من قيادة أركان يديرها أحد الضباط المقالين ويمنع الجيش وبأوامر صارمة منه الأهالى والمحامين من دخولها ويسمح للنيابة العامة وقاضى التحقيق بدخولها لغرض التحقيق مع المعتقلين بعيدا عن قصر العدالة حيث يحدث التقاضى عادة فى الدول التى يحترم حكامها المساطر القانونية وفق ماسمتعه من أحد المحامين!.
2- تسريب السلطات الامنية والعسكرية عبر وسائل إعلام محلية ودولية للعديد من التقارير الأمنية التى تتحدث عن دخول سيارات مفخخة تارة، وحاملة لمتشددين إسلاميين تارة أخرى قبل أسبوع واحد من عملية "تورين" وإعلان الجيش وقوى الأمن حالة الإستنفار القصوى فى شوارع نواكشوط تحسبا لأى طارئ .
3- اعتقال شخصيات وصفت بالمهمة لدى الأمن المالى المجاور ولعل من أبرزها على الإطلاق عبد الرحمن النواجيرى الذى تتجه إليه أنظار السلطات الموريتانية بوصفه الشخصية السلفية الأكثر غموضا فى تاريخ الحركة الناشئة منذ 2003 وتتهمه الأجهزة الأمنية بالتخطيط للعديد من العمليات كالإعتداء على ميناء نواكشوط والسفارة العبرية بموريتانيا وإدارة الوضع الأمنى خارج المنازل التى كان سلفيون شباب يقطنون بها قبل المواجهات التى دارت وسط العاصمة نواكشوط قبل شهور ..والطيب ولد سيدى عالى الذى يوصف بأنه آخر مسلح سلفى غادر نواكشوط بعيد المواجهات وفق ما أدلى به معتقلون للجان التحقيق العسكرية وتحديدا زعيم التنظيم المفترض الخديم ولد السمان .
وهو مايعنى أن السلطات وبالتعاون مع الأمن المالى كانت تمسك قبل الأحداث بأسبوع واحد بصيد ثمين لديه أسرار "كتيبة الملثمين" التى يقال إنها عنوان الموريتانيين الوحيد داخل صفوف القاعدة فأين ذهبت تلك المعلومات ؟
4- إقالة السلطات الجديدة لوالى ولاية تيرس زمور وتعيين عقيد فى الجيش الموريتانى خلفا له دون الإعلان عن أسباب واضحة أو مقنعة باستنثاء مارددته وسائل إعلام موالية للجيش من أن الوالى المخلوع – كما العمدة والنائب وشيخ المقاطعة – محسوب على رئيس البرلمان الرافض لشرعية العسكر.
5- تجاهل السلطات الامنية للتحذير الذى وجهته الولايات المتحدة الأمريكية قبل خمسة أيام لقيادة أركان الجيش وقالت فيه بشكل صريح أن بعض النشطاء السلفيين يتحركون شمال موريتانيا وهو مالم تعره السلطات أى اهتمام مما أثار غضب الملحق العسكرى الأمريكى فى نواكشوط ودفعه الى رفض لقاء الجينرال عزيز
تلك معطيات قليلة تكشف بجلاء إهتمام القادة الجدد بالحراك السلفى فى المنطقة وتعقيدات الملف المفتوح أمام القضاء الموريتانى والأجهزة الأمنية، ولعل أهم ما يمكن استخلاصه منها دون كثير عناء بأن جبهة "أزويرات" كانت حاضرة فى ذهن من يدير البلاد وأن أحدا ما لم يفاجئ بتطورات ملف السلفيين المفتوح على مصراعيه وأن الحذر كان قائما والمعلومات موجودة ولكن كما يقال لاينجى حذر من قدر تحول حوله الكثير من الشبهات !!
ولعل المؤشر الأكثر خطورة والمعطى الأكثر وقعا على النفس ماذكرته بعض وسائل الإعلام المحلية فى روايتها للحادث أمس الأحد 15-9-2008 من أن قائد السرية المغدورة "أج ولد عابدين" الذى كانت قواته متمركزة ليلا قرب "تورين" صدرت له الأوامر من شخص ما فى القيادة بضرورة التحرك ليلا لعبور المضيق المفخخ بنشطاء القاعدة. لتنهى تلك الأوامر حياته مع رفاقه فى مضيق "تورين" فى حادثة شبيهة بما وقع فى لمغيطى قبل ثلاث سنوات وهى الحادثة التى مهدت لوصول قادة الجيش الحاليين إلى السلطة فى الثالث من أغشت 2005 فهل تكون "تورين" برسمها "السلفى" مدعاة لبقاء الجيش فى السلطة!!؟
الصمت المخجل!!
رغم مضى أكثر من ثلاثين ساعة على العملية التى أستهدفت دورية الجيش الموريتانى فلاتزال أهم التفاصيل غائبة عن الرأى العام الوطنى والدولى بفعل حساسية الملف ورفض السلطات العسكرية أو "الإدارية " الإدلاء بأى تصريح حول الحادث ومصير الضباط والجنود ،كما لم تعلن أى جهة سياسية عن مطالبتها بفتح تحقيق حول ظروف وملابسات الحادث فى انتظار ماستقوله وزارة الدفاع ،بل أبعد من ذلك ذهب النواب المساندون للعسكر الى أخذ عطلة معوضة بعد الإرهاق الشديد الذى عانوا منه طيلة الأسابيع الماضية فى رحلتهم المريرة لجمع التأييد لقائد الجيش دون الإعلان على لجنة تحقيق برلمانية فى الحادث أو الوقوف مع القوات المسلحة فى امتحانها الصعب ، فالصحوة التى أنتابتهم خلال الشهور الماضية يبدوا أنها غير قابلة للإستمرار حينما يتعلق الأمر بالعسكر وكان "فساد" أمبارى و"تجاوزات" ختو أخطر على سلم وأمن واستقرار ومستقبل البلاد من تكرار ذبح الجنود الموريتانيين على أيدى قتلة لايرقبون فى مؤمن إلا ولاذمة.
غير أن موقف الإعلامى الرسمى من الحادث كان بمثابة الصدمة ،فالإذاعة الوطنية التى ملأت الدنيا وشعلت الناس بدور المؤسسة العسكرية وتضحياتها الجسام – وهى بحق تضحيات موجودة وملموسة – أختارت هذه كعادتها الصمت فى مواجهة الحقيقة وضنت كما الحكومة على أهالى الشهداء والأسرى بخبر يطمان الأهالى أو يشعرهم على الأقل بوجود دولة قتل أبنائهم فى سبيل وحدة أراضيها وكرامة ساكنيها. وأختارت مجالا آخر فتحطم الطائرة الروسية وصلح حزب الله ووليد جنبلاط وتعازى رئيس المجلس الأعلى للدولة الخارجية كانت هى عنوان النشرات الرئيسية فى الإداغة والتلفزيون بينما واصل التلفزون خيامه الخيالة وتحذيره للأطفال من مغبة اللعب فى برك المياه واستعراض آخر عروض شركات الاتصال لتنفرد الوكالة الرسمية للأنباء بوعد أخشى أن يكون من وعود عرقوب!!