بمناسبة تخليد بلادنا للذكرى السابعة والخمسين لعيد الإستقلال الوطني نتقدم بأحرالتهاني وأطيب التمنيات لشعب الجمهورية الإسلامية الموريتانية ، متمنين له مزيدا من التقدم والأمن والأمان ، بعد أن كانت دولته قبضة في يد الإستعمار الفرنسي الغاشم لولافضل الله ثم صمود المقاومة الوطنية التي أخذت أنماطا متعددة في مقاومتها صبت كلها في حفظ هوية البلد وخصوصياته صانعة بذالك مرآة صقيلة ناعمة عكست بها صورة كل الشناقطة – الموريتانيين – في بوتقة سمتها العلم والعمل والمقاومة .. فكانت وابلا سقط على أرض طيبة قبلت الماء فأنبتت الأمن والحرية والإنعتاق من يدي الأجنبي المحتل .
في هذا المقال لاأعالج إشكالية المفهوم التأريخي للمقاومة هل هي " ردة فعل تحصل بأدنى تصرف ومن أي شخص كان ضد عدو أجنبي دخيل ؟؟ " أوهي " جهاد اتسم بالدفاع عن المقدسات الإسلامية والثوابت العقدية الدينية ضد الغزو الفرنسي منذ دخوله البلاد ؟؟ " . ولامراحل المقاومة وجدلية ألامقاومة وخصوصياتها بدءا بدخول " الرحالة " وحتى اكتمال السيطرة ومتى بدأت وكيف بدأت ؟؟ لأن ذالك يعد نوعا من الإيثارة لجدل تضطرم ناره كلما اقتربت مناسبة تستدعي تأمل الماضي وربطه بحاضر لم يكتب ! ولكن سأثيرإلى جانب هذه الإيثارات موضوعا أسعى إلى تعميق غيريته الثقافية وتجذيرها من طرف الباحثين ، موضوع " المقاومة المحضرية وحلم الإعتبار " بيد أن جل الساسة من مثقفين وباحثين ودارسين لهذا المجد التليد ، وحتى إعلاميين يتجاهلون ركيزة أساسية ونقطة محورية وعنصرا فاعلا وجانبا مهما في مكافحة الإستعمار الإحتلالي إن لم تكن الأهم في تاريخ هذه الامة العظيمة ، إنه الدور البارزالذي لعبته الجامعات البدوية – الصحراوية – التعليمية – الإجتماعية – التربوية في شنقيط أرض المنارة والرباط ، محضن المدارس العتيقة ( المحاضرالموريتانية ) التي استطاعت بجهود علمائها الأجلاء وأبطالها العظماء الذين جالدوا في سبيل الوطن بالحبر والدواة إلى جانب أولئك الذين ارتوت الأرض وسالت أوديتها وسهولها بدمائهم الطاهرة دفاعا عن حوزة البلد الترابية من متدرعي السيف والسنان واقفين سدا منيعا أمام استلاب الأرض ثقافيا وأخلاقيا طبقا لقاعدة المستعمرالمتبلورة في مبدإ " فرق تسد " الذي كان سيقلب الموازين بفرضه قيما غريبة تغرس شرعية الوجود الإستعماري في أذهان شعوب كانت ستشعر بالدونية وتعيش عيشة الجماد على هامش التاريخ والحضارة .. إلاأن المقاومة الثقافية أبت إلا أن تظل موريتانيا محصنة بفضل محاضرها ، إذأن المحضرة الشنقيطية تعتبر استثناء حضاريا عالميا يفند النظرة التي تقول بأن الجهل ربيع البادية مدعين أصحابها أن العلم لاينموإلافي ظل الحضر والتمدن أوالتمركز " العمراني" الحديث ، يقول رئيس مصلحة التعليم الإبتدائي في المحافظة الفرنسية شينيو في تقريرصدرسنة 1934أكتوبر: ( إن البيضان قد اعتنقوا الإسلام منذ عدة قرون كان من بينهم ومازال علماء وفقهاء معروفون في جميع البلاد الناطقة بالعربية ونحن نتفهم كونهم – غيرة على ماضيهم – لاينظرون إلى حضارتنا بحماس ، فالثقة بيننا معدومة الآن ) ...
إن أصحاب هذه الفرضية المفتقرة إلى سند علمي وتاريخي ليغفلون جذورية المقاومة الدينية ومدى إسهامها ، يقول الدكتور : الخليل النحوي :(ماكان للتاثير الفرنسي في بلاد شنقيط أن يظل محدودا لولاجهاد المحضرة ). المتمثل في مقاطعة المدرسة الفرنسية ومارآه بعض قادتها من ضرورة الحفاظ على الهوية من خلال التمسك باللغة العربية – لغة الضاد— واتساع الرقعة التعاملية مع أناس يعد التعامل معهم والمخالطة نوع من ارتكاب المحظور ! لذالك تجب مجاهدتهم على ضوء الفتاوى التي أصدرها علماء المحضرة بوصفهم الممثلين للسلطة التشريعية التي تعنى بإصدارهذه الفتاوي والقوانين المرجعية في استيراتيجيات المقاومين وبرامجهم التخطيطية التي يعد لهاالمستعمرعدته ، من أمثال الولي الصالح والقطب الرباني الشيخ ماء العينين والشيخ سعدبوه والإمام ببكرعبدول وسيدمحمد ولد الشيخ سيديا الذي اعتلى منبرالقريض كوسيلة لإيصال نداء استغاثة من خلال قصيدته العصماء التي عكست وجه والده الإجتهادي وبصمته في إيجاد كيان سلطة مركزية " متصورة في الأذهان " فقط :
رويدك إنني شبهت دارا **** على أمثالها تقف المهارى
تأمل هاتيك الروابي **** فذاك التذل أحسبه أنارا
وتان الرملتان هما ذواتا *** عليان وذاخط الشقارى ... إلى أن يقول :
حماة الدين إن الدين صارا *** أسيرا للصوص وللنصارى
فإن بادرتموه تداركوه *** وإلايسبق السيف البدارا ....
لقد اتخذ هؤلاء من الجامعات البدوية المتنقلة على ظهور العيس خلفية وفضاء ملحميا يؤطرخط سيرهم الجهادي -- حال كونهم-- بناة حضارة منذ مايربوا على ألف عام ، عبرت جسورها قارات العالم من نهر السينغال إلى مدينة " سرت " ، ومن انيور إلى فاس ، و من إقليم أزواد إلى واد نون ، ومن تنمبكتو إلى تندوف ، ومن المحيط إلى الخليج ... يجوبون القارات سفراء علم اعتمدوا فوق العادة يتمتعون بكامل السلطة أينما حلوا أوارتحلوا ، ينشرون رسالة الإسلام في وسطيتها السمحاء ونهجها المتأصل من مجمع الشريعة ومبناها ، ومبدإ خيري الدنيا والآخرة : القرءان الكريم بتفسيره وقراءاته وأحكامه وناسخه ومنسوخه .... يدعون بالتي هي أحسن ، سيرا على خطى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وتبيينا لسنته الشريفة ، مصطلحها وصحيحها وضعيفها ورجالها .... يتصدرون المجالس بفصاحة وفقه ، يعرفون علومها ويروون آدابها وأخبارها ، يحاورون بفقه وتمرس ومقاصد .... ينشرون الحضارة الإسلامية في أبهى حللها ، في العام 1902 كتب الحاكم الفرنسي العام في غرب إفريقيا ضمن تقريربعث به إلى وزيرالمستعمرات يتحدث فيه عن صعوبة المهمة التي يقوم بها قائد الحملة الفرنسية " كبولاني " قال :( لقد وجدنا شعبا له ماض من الأمجاد والفتوح لم يغب بعد ، ومؤسساة اجتماعية وثقافية وحقوقية لايمكن تجاهلها ) .. يعني المحاضر ، والحق ماشهدت به الأعداء ..
إنها أجيال سطرت أسماءها في سجل لم تطلع عليه بصيرة الدولة ولم تسلط عليه نواميس الضوء في نقطة اهتماماتها .. ومادامت الجهاة الرسمية تهمل رعاية هوية وإرثا حضاريا بحجم المحضرة فإنها لن تضع الذاكرة الشنقيطية في سياقها العقلاني الصرف ، فشيوخ المحاضر أصبحوا اليوم في عزلة همجية بعد أن كانوا إطارا يحتل الصدارة في مختلف قطاعات الحكومة ، فكان منهم القاضي والأستاذ الجامعي والمتخصص والمعلم المربي والصحفي والمرشد والوزير المحنك أيام التعريب والإستقلال ... كماأن غياب التطوير والحداثية في نظام المحضرة المتطلب وجود مخصصات مالية من ميزانية الوزارة الوصية التي تبلغ 3 مليارات و3179 مليونا و682 ألفا و499 أوقية ، وكذا توظيف المعلومات والمعارف التي يحصل عليها الطلاب داخل المحضرة ، وإن كان التنفيذ في ظل الإستيراتيجية السياسية والتعليمية الحالية لايوحي بإيجاد حل لمشاكل حقل يشهد تهميشا وهدما بنيويا رغم مزاحمته التعليم النظامي الذي تلاشت نتائجه أدراج التسرب المدرسي وتعاطي المخدرات الماحق ...
إن موضوع المحتضرة والتاريخ الموريتاني عموما يحتاج إلى كبير عناية من طرف الباحثين المتخصصين من أصحاب الحرفة التاريخية تأتي بسداد من عوزه انطلاقا من الكتابة التي لاتفارق الدقة والموضوعية والحياد والأمانة العلمية بعيدا عن عوائق الإبستمولوجية وصراعات الإيديولوجيا والاعلمية في تناول تراث لم يدمج في المشاريع الرسمية للدولة الوطنية التي ترفع اليوم صوتها بما تسميه إعادة كتابة التاريخ ، وكتابته تكاد تحتل في اهتمامها درجة الصفر ! فالمكتبات معظمها أهلية أوصناديق مازالت تطمر الكثير من المخطوطات التاريخية النادرة التي لم تر من يستكنه قيمتها ويتعقب دقائقها ويستخرج خصائصها حتى ترى نور الربط بعناصر الحاضروتحديده ، وقيمة الماضي وتراثه ، وتحقيق حلم رد قليل من الإعتبارلها وأختم هنا بمقولة المؤرخ السينغالي الكبير : الشيخ انتا جوب القائلة " إن على المثقفين أن يدركوا تاريخهم وماضيهم لاليفتخروا به ويجاملوه ، بل ليستنتجوا منه العبر "..