فضلا عن ترسخ العلاقات التاريخية بين موريتانيا والمملكة العربية السعودية والممتدة على مدى عقود منذ تأسيس المملكة وقيام الدولة الموريتانية، والمتجسدة في مواكبة كبيرة للبنية الموريتانية إبان التأسيس، إلا أنه منذ تولي الملك سلمان بن عبد العزيز زمام السلطة في المملكة أبدى اهتماما كبيرا بموريتانيا، وكانت أولى المؤشرات على ذلك استقباله لرئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز عند مدخل قاعة المؤتمرات خلال مشاركة الأخير في إحدى القمم المنعقدة بالمملكة بحفاوة بادية، ودعوته لمدير ديوانه الملكي وهو ممسك بيد الرئيس وأمره له بترتيب لقاء خاص له معه، وهو اللقاء الذي تمخض عنه الاتفاق على الانتقال بالعلاقات بين البلدين من علاقات عادية إلى أخرى استرتيجية. وللعلم والتذكير فقد كان ذلك قبل حرب اليمن، وقبل الأزمة الخليجية..
ومنذ ذلك اللقاء تسارعت وتيرة التنسيق والاتصالات بين البلدين، وتسارعت الخطوات لتجسيد ووضع الآليات لبدء تلك العلاقات الاستراتيجية التي تشمل الجوانب السياسية والإقتصادية والأمنية والعسكرية والثقافية.. وأصبحت موريتانيا منذ ذلك التاريخ حاضرة وبحفاوة في كل المناسبات المختلفة المقامة في المملكة، كما تتالى تبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين، وتكثفت زيارات المسؤولين السعوديين الماليين لموريتانيا بدء بوزير المالية ثم مديري الصناديق والهيئات المالية السعودية، وعلى المستوى العسكري أيضا تعددت الزيارات المتبادلة بين المسؤولين العسكريين والأمنيين، فزار قائد أركان الجيوش الموريتاني السابق محمد الشيخ ولد محمد أحمد المملكة عدة مرات، كما زار نائب وزير الدفاع السعودي موريتانيا ثم زارها بعد ذلك قائد هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة السعودية، وكل ذلك في إطار تلك العلاقات الاستراتيجية، لتتولى وزيرة التجارة السابقة الناها بنت مكانس تنسيق الجانب الإقتصادي من هذه العلاقات خلال زيارتها للرياض 6 يناير 2016 ولقائاتها بالمسؤولين الماليين السعوديين كوزيري المالية والتجارة والاستثمار، والمدير التنفيذي للشركة السعودية للصناعات الأساسية ( سابك )، والرئيس التنفيذي لمؤسسة الراجحي، ليتم تتويج تلك المباحثات بعقد اللجنة العليا المشتركة الموريتانية السعودية في نواكشوط 16 فبراير 2017، وتم التوقيع خلالها على عديد الاتفاقيات الهامة في مجالات زيادة حجم التبادل التجاري، وتسويق الخدمات، وفي مجال الكهرباء والطاقة المتجددة، واستغلال خامات الحديد والخامات الأخرى، وخدمات النقل الجوي، وفي مجالات البيئة والمياه والتربية والتعليم والعمل والصحة والثقافة والسياحة والإعلام..
والحقيقة فإن أغلب هذه المجالات ظل للمملكة العربية السعودية دور ومساهمة معتبرة في التدخل فيها وتمويلها على مر التاريخ في إطار العلاقات بين البلدين، قبل ذلك الفتور الذي مرت به تلك العلاقات على إثر الموقف العاطفي والشعبوي الذي اتخذه نظام ولد الطايع من احتلال العراق للكويت وحرب الخليج الثانية بداية تسعينات القرن الماضي، وهو الموقف الذي أدى إلى شبه قطيعة بين موريتانيا وكافة بلدان الخليج العربي، وشكل شرخا كبيرا كلف البلد الكثير من الجهود والمحاولات والتنازلات لجبره استمرت إلى غاية بداية هذه الألفية، ليبدأ بعد ذلك استئناف التعاون وإن على حذر واستحياء.. إلا أنه لوحظ زخم جديد لهذا التعاون خاصة في ما يتعلق بالعلاقات والتعاون مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت خلال السنوات الأخيرة تمثل في تبادل الزيارات وتسريع وتيرة التعاون الإقتصادي والمساهمة المعتبرة لصناديق التمويل الخليجية في المجالات التنموية بموريتانيا، ولكن كان للصندوق السعودي للتنمية وشركات الاستثمار السعودية الدور الأكبر من بين تلك التدخلات.
ذلك الموقف العاطفي والشعبوي هو ما يريد منا البعض اليوم الوقوع فيه من جديد، ضاربا عرض الحائط بتبعاته لأنه لا يتحمل المسؤولية عن تبعات تلك التبعات، بل قد يراها عونا له في معركته مع النظام.. ولم تكن العاطفة والشعبوية يوما أساسا متينا لأية علاقات، وكل العلاقات التي قامت على هذين الاعتبارين كان مصيرها الزوال، بل إن الشراكة الاقتصادية والتعاون المثمر هما الأساس لكل علاقات يُراد لها البقاء، وكل المنظرين والخبراء اليوم يقولون إذا أردتم علاقات أو اندماج بيني فدعوا السياسة والعاطفة جانبا، ولتكن الشراكة الاقتصادية هي الأساس في ذلك الاندماج وفي النهاية ستنقاد السياسة لتلك الشراكة والمصالح.. ونحن لا نخفي ولا ننكر هنا أن للجانب الإقتصادي والمالي مكانة مهمة في علاقاتنا بالمملكة العربية السعودية لكي لا يعتقد أحد أنه يلمزنا في هذا الجانب، حتى ولو كان يلمزنا بما يعرفه في نفسه.. فقد كان المال، ولا شيء غير المال، هو سبب موقف الداعين اليوم لما يسمونه حراك شعبي مناهض لزيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لبلادنا، وذلك بعد تغير وتبدل الأحوال عما كانت عليه إلى عهد قريب أيام كانت المملكة بالنسبة لهؤلاء هي الحصن الحصين للدين الإسلامي وقلعة من قلاعه في وجه المبتدعة وأهل الفجور، وأدعيتهم لها ولحكامها بالحفظ والتوفيق ومن ضمن ألئك الحكام طبعا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.. أو عندما كانت، وإلى عهد قريب كذلك، حرب المملكة في اليمن حربا مقدسة وجهادا في سبيل الله والوقوف إلى جانبها والقتال معها فرض عين على كل مسلم..!
تغيرت الأحوال بعد ذلك وتعارضت المصالح، وقبضت المملكة يدها عن تيارات وجماعات معينة، أو نشب خلاف بين المملكة وأحد جيرانها فتعذر على تلك الجماعات القبض من طرفي الأزمة في آن، وأصبحت حرب اليمن عدوانا بعد أن كانت جهادا؟ هذا يخص من قبضت عنهم المملكة يدها، ومن تغيرت مواقفهم منها ولا يخص موريتانيا التي لم يبدُ لها من المملكة إلا كل ما يدل على الرغبة والجدية والالتزام في السير بالعلاقات نحو آفاق أرحب مع الاحترام وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ( ولا خيار في أموال الناس )، وليست موريتانيا في هذا العهد هي موريتانيا في عهود أخرى كان لجماعات الضغط الداخلية الدور الأبرز في رسم سياساتها وعلاقاتها الخارجية و إرضاخها وارتهانها للأجندات والساحات الإيديولوجية!
ومن هنا فقد لا تفي بالغرض كل عبارات ومفردات الترحيب بأي ضيف سعودي على أرض موريتانيا، أحرى أن يكون الضيف هو ولي العهد في المملكة العربية السعودية، بتاريخها الطويل الحافل بالمواقف الودية والداعمة اتجاه موريتانيا دولة وشعبا، وبدورها التاريخي والحضاري، وبمكانتها وثقلها الإقليمي والدولي، وبأياديها البيضاء التي طالت حتى أدغال إفريقيا، دور ومكانة لن تغير منهما ولا فيهما أحداث عارضة منفوخ فيها سياسيا وإعلاميا بشكل تحريضي تشنيعي عدائي برز واتضح إلى أن أصبح مملا ومبتذلا ومكشوفا..!