"ضد النسيان" .. سير لرواد الصحافة الموريتانية الذين رحلوا هو عنوان كتاب سير أو بالأحرى صور قلمية معمقة صدر مؤخرا في نواكشوط عن دار "جسور عبد العزيز للنشر" في طبعة فرنسية أنيقة وبإخراج محفز على القراءة لمؤلفه الكاتب الصحفي الاستقصائي والفاعل الناشط في المجتمع المدني وفي الهيئات المهنية والنقابية الاعلامية الوطنية سيدي عبد القدوس أحمد المكي، الذي بادر مشكورا بنفض غبار أرشيف مهنة المتاعب مسخرا ملكته الجامحة وحسه المهني المفعم بالوفاء وصبره السيزيفي ومنهجيته الخلاقة في محاولة جادة لإضاءة شمعة ضد النسيان، بل لنقل ضد التناسي الذي لا مبرر له على الاطلاق عندما يتعلق الأمر بشموع إعلامية احترقت لكي تنير الرأي العام الوطني وتتحفه بخدمات اعلامية اخبارية تثقيفية ترفيهية توجيهية تسويقية على مدار الساعة ولسنوات طويلة.
لقد وفق الزميل عبد القدوس في نفض الغبار عن هذه الدرر وفي لم شمل الأجيال الاعلامية وجاس ببراعة في أروقة النسيان ليجعلنا نتذكر أناسا أبوا إلا أن يظلوا حاضرين رغم غيابهم الأبدي .. فمن منا لا يتذكر أصواتهم الدافئة التي شنفت مسامع الموريتانيين ودغدغت مشاعرهم خلال العهد الاذاعي الوطني الأول والوسيط .. من منا لا يتذكر اطلالتهم الجاذبة عبر الشاشة خلال عهودها الأولى .. من منا لا يتذكر كتابتهم الجميلة التي نحتسيها مع شاي الصباح .. من منا لا يتذكر تلك الريبورتاجات وتلك التقارير وتلك القصص الاخبارية وتلك التحقيقات والتعليقات والمقابلات والأعمدة والافتتاحيات وتلك الانعاشات التي غطت مساحة الوطن وغمرت وجدان ساكنيه وعضدت اللحمة والمواطنة السوية وتجاوبت مع كل الحاجات الاعلامية في أزمنة صعبة بوسائل متواضعة لكن بهمم لا تستكين وبإرادة لا تعرف المستحيل.
لقد كانوا بالفعل جيل الاستقلال الاعلامي وكانوا فرسان كلمة ذادوا في لحظات صعبة عن حياض الوطن من كل الثغور وخاضوا حملات ناجحة وكسبوا معارك اعلامية كبرى على كل الأصعدة .. فشكرا للزميل سيدي عبد القدوس أحمد المكي على مبادرته الرائعة التي آمل أن تكون بداية مشوار حفظ الذاكرة الاعلامية وإعادة الاعتبار لجيل الرواد .. وقد وفق المؤلف في إهداء عمله للمرحوم محمد سعيد ولد همدي وهو عميد مخضرم وفق في أن يكون صلة وصل اعلامية بين أجيال الاستقلال وأجيال ما بعد الاستقلال .. كما وفق رغم اكراه شحة المصادر والمعلومات في اختيار عينة حصصية ممثلة لكل الأجيال ضمت صحفيين تسيسوا غصبا عنهم وسياسيين مارسوا الصحافة السرية والعلنية وفئة ثالثة من الممارسين العاديين الذين قذفت بهم الأقدار في عين إعصار مهنة المتاعب كما ضمت العينة حراس بوابات اعلامية وقادة رأي .. وكان يمكن للعينة الحصصية أن تكون أوسع تمثيلا لو ضمت روادا منسيين مارسوا الاعلام السري وإعلام المقاومة منذ 1901 – إلى 1991 لكنها رغم ذلك أحاطت بجوانب الاعلام المكتوب والمسموع والمرئي بصورة موضوعية ومبررة ولا أخال أسماء الزملاء سيدي ولد الشيخ ومحمد يحظيه ولد العاقب ومحمد ولد حمدان إلا سقطت سهوا، فمعظم من عاصروهم تم التطرق إليهم في حدود المعلومات المتاحة.
كلهم يستحق كتابا
أنا كما العميد والوزير السابق محمد يحظيه ولد ابريد الليل الذي التمس لكم العذر في تقديمه الرائع في عدم اعطاء المرحوم محمدن ولد حامدون حقه من خلال فصل واحد لأنه يستحق أن يفرد له كتاب ألتمس لكم بدوري نفس العذر بالنسبة لزملاء من أمثال حمود ولد حادي ومحمد ولد حمادي والشيخ التجاني ولد أحمد المكي وكلي بالي سليمان واليدالي ولد الشيخ فكل واحد من هؤلاء يستحق إفراد كتاب لمستواهم المهني وتجربتهم الغنية ومكانتهم المعتبرة السامقة وخدمتهم الرزينة للدولة والمجتمع من كل المواقع بنكران ذات وتجرد .. وأجزم أنه يحق لمطالعين آخرين لكتابكم القيم أن يذهبوا في نفس الاتجاه بالنسبة لرواد آخرين، فكل واحد من الـ 28 يستحق كتابا مستقلا لكنكم بجهدكم الاستقصائي الذي يذكر فيشكر ويقدر وضعتم معالم طريق الوفاء .. معالم طريق حفظ العهود والوعود وأداء الأمانات والاعتراف بالجميل وصيانة المودة والمحبة .. طريق صيانة الذاكرة الاعلامية لبلاد المنارة والرباط وهو طريق علينا أن نسلكه جميعا إذا قدر لنا أن نسترشد بعبر الماضي ونتدبر الحاضر ونستشرف المستقبل.
وعبر محطات هذا الطريق الذي بدأتموه بوفاء ومهنية فليتنافس المتنافسون...
أحمد مصطفى / كاتب صحفي وسفير سابق