مع أنني لست ممن انخدعوا للحظة واحدة أن الاعتراض على رموز الفساد هو سبب تحرك الكتيبة البرلمانية ضد حكومة ولد الوقف الأولى، ومع أنني كنت وما أزال مقتنعا أن الرئيس المنتخب على ضعفه خير من الجنرالات غير المنتخبين وخيلهم ورجلهم لكني مع ذلك أجدني مرتاحا- رغما عني - لبعض الثمار التى تسنى قطفها من أرض المعركة أعتقد أنه من المهم" حيازتها" - بالمعنى الفقهي - فى انتظار أن يرتفع الغبار الجديد مؤذنا بجولة قادمة من معركة " استقلال النفوذ" كما سماها ذات يوم أحد "الشيوخ الثائرين" .
1
انتهت الجولة الأولى من المعركة بخروج بعض رموز الفساد من الحكومة، وفى ذلك مكسب لاشك فيه، بيدأن الحكومة لم تخل من "وحدات" للفساد ربما ليست بمستوى "رمزية" الخارجين، لكنها على أية حال عناصر سائرة على طريق الفساد بوتيرة ستمكنها خلال أمد قريب أن تنتزع الأرقام القياسية من " سلف المفسدين"، وهنا أقترح مؤقتا تسمية هؤلاء بأصفار المفسدين وذلك فى انتظار أن ينهوا مرحلة التربص ويستلموا مقاعدهم المضمونة إلى جانب
" القادة والكبراء".
وحتى لايظن أحد أن فى إلحاق هؤلاء بالمفسدين تكلفا أو سوء ظن لاأساس له دعونا نعرف أصل الفساد، ومنبع المفسدين، ثم نستدعي شيئا يسيرا من تاريخنا القريب ليكشف لنا كيف أن هؤلاء "الرموز" الذين يشار إليهم بالبنان كانوا ذات يوم" تكنوقراطا" نظيفين، ولخدمة وطنهم من المتحمسين لكن الظروف التى تم اختيارهم على أساسها، وأمورا أخرى جعلتهم يلتحقون - ربما من بينهم مكرهون، و الأكيد أن لاأبطال ثم – يلتحقون بركب "الرجال" الذين يقطعونها وإن دعت الحاجة يرقعونها"... نعم لقد تم اختيارهم على أساس لا دور لهم فى اختيارهم ولاقدرة لهم على توجيه مساره – على فرض أن من بينهم صاحب إرادة أصلا
تم اختيارهم ليمثلوا القبيلة كذا والعرق كذا والجهة كذا فكيف نتوقع منهم أن لايكونوا رموز فساد، وهم سيجدون أنفسهم فى صباح اليوم التالي لتعيينهم في مواجهة عشرات الطلبات القادمة من شيخ القبيلة وشيختها، وفتاها وفتاتها الذين لايؤمنون أصلا بشيئ اسمه الدولة وليس على جدول أعمالهم إلا الكسب السريع " لأهل لخيام" فهذه حصتهم من الدولة سلمهم إياها الجنرالان ويجب أن ينال الجميع منها نصيبه لأن الانتخابات قادمة لامحالة ولابد لمرشحي السيد الجنرال أن ينجح فى الشوط الأول حتى لايضطر للتحالف فى الشوط الثاني مع من يفرض شروطا خارجة عن دائرة " نمط الحكم" العشائري الضامن الوحيد للتوزيع العادل للثروة على من يستحقونها وليس بين العامة والدهماء المحكوم عليهم أبدا أن يعيشوا شظف العيش؛ إذ بدون ذلك سيتفرغون للتفكير فى الإجابة على أسئلة يجب أن لايجدوا الوقت أصلا لطرحها.
وإضافة إلى ما سبق من ظروف موضوعية تجعل هؤلاء "الأصفار" يشقون طريقهم سريعا نحو الترميز، يجب أن نتذكر أن غالبية هؤلاء تخرجت بامتياز من مدرسة الرموز الأوائل بل إنه عند التدقيق فى خلفيات تعيين عدد من"السادة الوزراء" سنجد أن لهم نسبا وطيدا مع هؤلاء الرموز إضافة بطبيعة الحال للنسب المتصل مع الرئيس والرئيسين غير المنتخبين.
لقد أصبح رموز الفساد إذا في وضع أشبه ما يكون بوضع خليفة المسلمين ذات يوم الذي كان يقول للمزن أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك لقد خرج "الرموز الأفذاذ" طوابير من "أصفار الفساد" ستأتيهم بالخراج أينما كانوا وتتيح لهم الفرصة ليستمتعوا بما قدمت أيديهم، ويجدوا الوقت الكافي للتفكير بالجولة القادمة التى تذكروا جيدا أنها قادمة لامحالة، وربما يوم تأتي تلك الجولة يجدون من "يبيضهم" سياسيا ويقدمهم للشعب على أساس أنهم مناضلون شرفاء، وجنود مجهولون وأبناء بررة فذاكرة أهل هذه البلاد ضعيفة، والطبيعة الشعرية الطاغية على كثير منهم تجعلهم يحبون البكاء على الأطلال حتى ولو كانت أطلال عاد وثمود.
2
سمحت " الصحوة الديمقراطية" التى أشعلها "المصلحون الجدد" خلال الأسابيع الماضية بتدريب المواطنين على أن الرئيس والحكومة والجنرالات يمكن نقدهم جميعا وفيهم جميعا ما ينقد، وأظن أن في ذلك – بغض النظر عن الخلفيات- مكسب مهم ربما لم ينتبه له "مفجرو الثورة البيضاء ذات العارضة الزرقاء" فسيكونون إن صدقت التوقعات أكبر الخاسرين منه على المدى القريب قبل البعيد والمتوسط، وهنا ربما يكون من الأفضل للبلد - رغم أن ذلك لايبدو بدهيا فى النظرة الأولى - أن تستمر الأزمة لبعض الوقت حتى تدرك الأجيال المترعرعة فى عهد " القيادة الوطنية" الفرصة لتستعيد معنى الحاكم الأجير كما عرفه المسلمون وكما تعرفه الديمقراطيات الغربية حاليا، ويومها لابد بالتأكيد من جهد وطني جهيد ليكون الحاكم هذا أجير الشعب والشعب فقط.
3
كشفت الجولة أيضا عن درس مهم جدير بنا ونحن من نملك – ولافخر- الرقم القياسي فى الانقلابات العسكرية أن نحاول تهجيه واستظهاره عسانا لانلدغ من ذات المغارة للمرة الألف، فقد رأينا بالكثير من الألم كيف أن رئيسا منتخبا يرغم على التنازل خطوة خطوة لمطالب كتيبة من البرلمانيين " المأمورين" ولايفلح رغم محاولاته المتكررة فى الخروج من القفص الذى أرادوا له أن يتحرك فيه بطريقة محسوبة، وهو فى الواقع يدفع – وندفع نحن معه – قبوله وقبولنا أن يحشر العسكر أياديهم فى العملية السياسية أثناء المرحلة الانتقالية، ويوجهوها من وراء الستار وأحيانا من أمامه، ونوقع لهم بكل بلادة وبلاهة شهادة حسن سيرة وسلوك فى نهاية " اللعبة".
وعلى أهمية الدرس السابق فلامؤشرات ثم على قرب الاستفادة منه فحتى أولئك الذين لم يخرجوا بعد من أجسامهم سم لدغ "أفعي المرحلة الانتقالية" رأيناهم اليوم فى صدارة الراكضين خلف " أبطال اللعبة الجديدة".
إن كان فيما حصل فى المغارة ما يمكن " الدفاع عنه" فهو ما حصل أخيرا للكتيبة البرلمانية التى استخدمت وقود المعركة، لتوصل الأزمة لمداها قبل أن يقضى الأمر فى غيابها ، ولاتستشار وهي شاهدة ، وحين تتصل تجد من يجيب بعد مماطلة.
" شكرا لكم انتهي الإستشهاد".