خواطر الشيخ الرئيس / أحمد فال ولد الدين

altفي إحدى عشيَّات عاصمة بلاد الملثمين، تهادى الشيخ الوقور إلى مصلاه متمتما: "اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما غلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم".

وما كاد ينهي تمتماته حتى دلف بهدوء إلى عتبة المصلى وجلس القرفصاء وأخرج مسبحته التي صاحبته طويلا حتى قبل ولوج دار الإمارة. اعتاد الشيخ الهروب عادة إلى مصلاه هذا كلما تكالبت عليه هموم السلطان وقضايا الرعية..لكن هذه القضايا تبعته هذه المرة إلى مصلاه فاقتحمت عليه وحدته وعبادته فاستسلم لحديث النفس:
" مالي ولهذا الأمر؟ قاتل الله التولج في متاهات السلطان! ماذا جنيت على النفس وماذا حمّلتها من الأوزار؟ لكِ الله من لييْلات تقضَّتْ في جزيرة العرب كنتُ فيها سليم الذيل مصون الوجه واليد واللسان:
ولو تسأل الأيامَ عنِّيَ ما درتْ * وأين مكاني ما عرفن مكانيا
ما سر ما تتهامس به العامة الآن من انقطاع لحبل المودة بيني وبين كبير الشُّرط؟ ولماذا يزعم الزاعم أن العسكر قد يرموني عن قوس؟ ولماذا يرفع بعض المتصدرين العقيرة طالبا أن أخلع قميصا سرْبلنيه الله؟
ما بال هذا الداداهي لا يمسع هيعة تسيء إلينا إلا طار إليها مهيضَ الجناح؟ أهو الحرص على مصالح العامة وحفظ بيضة الملة، أم الوله الأعمى بالتصدر والتأمر؟...بخ بخ ورحم الله الأجداد: "الخمود نعمة وكل الناس يأباه"
والله لن يدخل الداداهي القصر حتى يؤوب القارظان ويبعث نبي من مكة! 
فجأة انتفض الشيخ انتفاضة المحب المدنف وتذكر أن الخطر على الإمارة ليس من هناك، وإنما ممن يملك الخيل البلق، فتماسك وبدأ يهمس:
"هل من السائغ أن يهب كبير الشرط ويتفق مع أحدهم على أن يخلفني وأن حيّ؟ وهل سيتغاضى الروم والسودان والأعاجم عن الثورة على شيخ أوصلته العامة إلى دار الإمارة بالتراضي؟ وما قيمة مهاتفة البوشي لي مساء دخولي دار الإمارة إذا لم يحل دون ذلك"؟
أحسب ذلك مستحيلا. فأنا آوي إلى جبل شرعي يعصمني من نزوات الجند وثورات العامة وأطماع الوجهاء.
لا خوف علي، فقلد أعددت لهذا اليوم عدته. ألم أنجح في استمالة القراء والفقهاء والتجار والثوار؟
ألم أجمع الشيخ الإصلاحي والثائر اليساري في بلاطي؟ ألم أستمل الطامعين الطامحين المستلقين المتذبذبين؟
ما كاد الشيخ يتذكر الطامعين الطامحين باعتبارهم سندا حتى ضجت مخيلته بصور رجال يعتلون ذِرْوة المناصب العالية في بلاطه، فخبثت نفسه وتعكر صفوه وامتلأ خياله بصورة رجل طُوال ممتلئ القامة ينادي بأعلى صوته: "ليس في الإمكان أبدع مما كان...ذهب الذين يعاش في أكنافهم* وبقيتُ في خلف كجلد الأجرب.. لك الله من أيام عشناها في كنف الملك الأموي!".
زاحمت تلك الصورة صورةُ رجل آخر أسمر السنحة ممتلئ القامة تفوح من مذرويه رائحة الحُساس.. يكثر التطواف بين أحياء بني قريظة وبني قينقاع، لا يخرج من عشاء مع سلام بن مشكم حتى يكون على موعد مع حيي بن أخطب...
ما إن تأمل الشيخ الوقور هذه الأخيلة حتى علم أن طالب الوفاء والحماية من هذه الشخوص متطلبا في الماء جذوة نار...فهمهم: "اللهم سلمْ سلمْ"..
ما إن بدأ اليأس يستبد بالشيخ الوقور ويفترسه في خلوته حتى تذكر أن المواثيق والعهود التي أقسمها الحي كله عند القاضي لا يمكن أن تنقضها نزوات الجند فعزم على أمر أضمره في نفسه...
همهم الشيخ: "اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعائك فاغفر لي" ثم تمطَّى على يديه ونظر من نافذة المصلى غربا في اتجاه خيام سفراء الروم فرأى الشمس تكاد تختفي مخلفة وراءها ساحة ممتقعة حمرة..
تمتم الشيخ: "اللهم لا عدوى ولا طيرة"..

21. يونيو 2008 - 14:49

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا