الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد فإن
رئيس الدولة فمن دونه لا يجوز لهم أن يتصرفوا إلا طبقا للمصلحة لأنهم وكلاء عن المسلمين والوكيل لا يجوز له أن يتصرف إلا طبقا لمصلحة مُوكِّله ،
فمن القواعد الفقهية العامة قاعدة : تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة
وقد شرح هذه القاعدة القرافي في كتاب الفروق في الفرق (223) بين قاعدة ما ينفذ من تصرفات الولاة والقضاة ، وبين قاعدة ما لا ينفذ من ذلك وقرر
أن " مقتضى ... النصوص أن يكون الجميع معزولين عن المفسدة الراجحة ، والمصلحة المرجوحة ، والمساوية ، وما لا مفسدة فيه ولا مصلحة ، لأن هذه الأقسام الأربعة ليست من باب ما هو أحسن ، وتكون الولاية إنما تتناول جلب المصلحة الخالصة ، أو الراجحة ، ودرء المفسدة الخالصة ، أو الراجحة ، فأربعة معتبرة ، وأربعة ساقطة ، ولهذه القاعدة قال الشافعي رضي الله عنه : لا يبيع الوصي صاعا بصاع لأنه لا فائدة في ذلك ، ولا يفعل الخليفة ذلك في أموال المسلمين . "
وقد أشار ابن تيمية إلى هذه القاعدة في كتابه السياسة الشرعية فقال : " وقد أجمع المسلمون على معنى هذا ، فإن وصي اليتيم ، وناظر الوقف ، ووكيل الرجل في ماله ، عليه أن يتصرف له بالأصلح فالأصلح كما قال الله تعالى { وَلاَ تَقْرَبُواْ ماَلَ اْليَتِيمِ إِلاَ بِالَّتِي هِيَّ أَحْسَنُ } ولم يقل إلا بالتي هي حسنة ، وذلك لأن الوالي راع على الناس بمنزل راعي الغنم ." قال :" وهذا ظاهر الاعتبار فإن الخلق عباد الله والولاة نواب الله على عباده وهم وكلاء العباد على نفوسهم بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر ففيهم معنى الولاية والوكالة . "
وفي حاشية ابن عابدين الحنفي(4/392)
" إن ولي الأمر إذا عين مدرسا ليس بأهل لم تصح توليته لأن فعله مقيد بالمصلحة ، ولا مصلحة في تولية غير الأهل ، وإذا عزل الأهل لم ينعزل . "
والمال العام ليس للرئيس ولا لمن دونه من المسلمين ، وإنما الرئيس ومن دونه عمَّال فيه ،فإذا أكلوا المال العام أو تصرفوا في توزيعه طبقا لأهوائهم ، كانوا مَدِينين للأمة ، ولذلك أفتى إمامنا مالك بن أنس الخليفةَ هارون الرشيد لما حنث في يمين أن يصوم ثلاثة أيام ولما استغرب هارون الرشيد هذه الفتوى التي لا تصلح إلا لمُعْدِم بيَّن له أن الأموال التي عنده ليست له .
وأفتى الإمام يحيى بن يحيى الأمير عبد الرحمن -وقد أفطر متعمدا في نهار رمضان -أن عليه صيام شهرين متتابعين !!
ولذلك قال : علامتنا القرافي في كتاب الفروق في الفرق 115( 2/687-688)
" : الملوك فقراء مدينون بسبب ما جَنَوْه على المسلمين من تصرفاتهم في أموال بيت المال بالهوى ..... فهذه كلها ديون عليهم ، فتكثر مع تطاول الأيام فيتعذر بسببها أمران :
أحدهما : الأوقاف والتبرعات والبيوعات على مذهب مالك رحمه الله تعالى ومن وافقه ....
و ثانيهما : الإرث لأنه لا ميراث مع الدين إجماعا ، فلا يورث عنهم شيء .... فإن وقفوا وقفا على جهات البر والمصالح العامة ونسبُوه لأنفسهم ، بناء على أن المال الذي في بيت المال لهم .... بطل الوقفُ ، بل لا يصح إلا أن يوقفوا معتقدين أن المال للمسلمين والوقف للمسلمين ، أما أن المال لهم والوقف لهم فلا ،كمن وقف مال غيره على أنه له ، فلا يصح الوقف فكذلك هاهنا . "
وإذا كانوا فقراء مدينين فهم مصرف للزكاة بثلاثة أوصاف : الفقر ، والمسكنة ، والدين !!
قال محمد بن سلمة : يجوز دفع الصدقة لعلي بن عيسى بن ماهان وكان أميرا ببلخ ، وجبت عليه كفارة يمين فسأل فأفتوه بصيام ثلاثة أيام ، فجعل يبكي ويقول لحشمه : إنهم يقولون لي إن ما عليك من التبعات فوق مالَك من المال فكفارتك كفارة يمين من لا يملك شيئا
لقد فهمها علي بن عيسى فهل يفهمونها ؟