خواطر الأمير أحمد / أحمد فال ولد الدين

altابْهارَّ الليلُ في عاصمة المنكب البرزخي ودبت الحياة فُجاءةً في هذا البيت الواقع في منطقة تفرغ زينة. بيتٌ تختلط فيه رطانات الأعاجم بالتسبيح والتهليل والتكبير. تجافى الشيخ عن مضجعه كعادته وافتتح يومه قائلا: "الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور".

عُرف عن الشيخ الأمير أنه يجمع بين جنبيه مالا يجمعه كثيرون: التزامٌ شعائري يستحضر عبادة الشيخ سيديا وتبتل زوايا المنكب البرزخي، وعقلية السياسي الإفريقي الذي نما مخُّه في محاظر الإفرنج حتى عبَّ مما عند القوم من تحرر لعالَم السياسة عن عالَم الدين.
إذا رأى الرائي الشيخَ المعارضَ في محرابه متبتلا خاشعا بين يدي ربه يُخيَّل إليه أنه طلّق الدنيا ثلاثا، لكنك ما إن تغدو معه وتماشيه سحابةَ يومك في ساحات العمل السياسي أو تفاوضه الحديثَ حتى يستبدَّ بك خاطرٌ أن الشيخ شيخان وأن تهجد الليل إنْ هو إلا "تهجد ليل"، أما النهار فذحُولٌ تُطلب وأمجاد لابد أن تسترجع.
يرى النجومَ بعينيْ من يحاولها * كأنها سلبٌ في عين مسلوبِ

صلّى الشيخ المعارض ما شاء الله له أن يصلي وظل يرقب قرنَ الشمس حتى ارتفعتْ، فصلى صلاة الأوابين بعدما رَمَضتْ الفِصال. أنهى الشيخ ورده ثم سرح بعيدا:
"إلى متى العيش بين العامة ومصاقبة بيوت الرَّعاء؟ إلى متى شيم البروق الخلب وانتظار عاديات الليالي؟. أوَكُلما خلا القصر من سَكْنه وأعددتُ العدة لنزوله فاجأني أحدهم واستولى على الإمارة؟
إلى متى تعليل النفس بالإمارة؟ إلى متى العيش دون حاجب؟
ما إن بلغ اليأس بالشيخ كل مبلغ، حتى استدرك فحوقل وحسبل واستغفر ثم رنى إلى جهة دار الإمارة وأنشد:
تربَّصْ بها ريبَ المنون لعلها * تطلق يوما أو يموت حليلُها
ليت الليالي باعتني الذي أخذت * مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي
في هذه اللحظة تذكر الأمير أن أنباء سارة ترامت إلى سمعه فدخل فؤادَه الحُبورُ واستسلم لخواطر محببة إلى النفس:
إني لأجد ريحَ القصر لولا أن تُفندون! أولم يدب الخلاف بين سَكْن دار الإمارة؟ لقد ثار الشرط على الجند، واشتبك الطباخ مع كتبة الدواوين، وتآمر الجواري على سعاة الزكاة.
وإذا جد الجد فلن يصطلح القوم إلا على رجل مثلي. فأنا من وُطِّئ له بالبيعة عدة مرات: عام ستين وتسعمائة وألف وعام ثنتين وتسيعن وتسعمائة وألف وقبل عامين بنسبة سبع وأربعين...فمن لها غيري؟
ما إن شخصت هذه الحقائق أمام عيني الشيخ حتى كاد يفقد زكانته فقهقه خاليا حتى دمعت عيناه..
لكن سحابة حزن ظللته عندما تذكر أن الدنيا غرور وأن القصر قد ازَّينَ له مرات ولم يلجْه إلا ضيفا فتعكر وبدأ يهمس:
يا دنيا غري غيري! أولم يخرز لي الخرز لأتوج ملكا بعد انقلاب أغسطس فانشقت الأرض عن رجل قادم من مدائن لا أعرفها فاغتصب الإمارة عنوة؟
أولم يزحزح أمير أمية وأنا الذي كنت أزاحمه بالمنكب فدخل القصر آخر؟
ومن يضمن لي اليوم أن لا يزداد الشيخ الرئيس مُنَّة أو يجد مخرجا من ورطته؟
وحتى لو حصل المؤمل من يضمن لي أن لا تنشق الأرض عن شيخ آخر يخطف الحلم ويتركني في ضَحْضاحٍ من الأحلام الزائفة؟
حاول الشيخ أن يغلب كِفة الخوف أو الرجاء فلم يفلح. فالأيام أدبته وأذاقته صاب التفاؤل الزائف، لكن القلق السلطوي الثاويَ بين جنبيه يغريه بالتفاؤل ومواصلة المسير...

همهم الشيخ وتلا الآية الكريمة :
(قل اللهم ملك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك من من تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير )

28. يونيو 2008 - 9:52

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا