مسافة الثورة مثل رحلة الألف ميل.. وزمن الثورة زمن زئبقي.. أيام تونس و لياليها غير عادية.. تتغير باختلاف الليل و النهار.. الليل ملك للجند و للعسس.. و النهار ملك للشعب و للشارع.. الساعات تمر خارج إطارها.. و عقارب الساعة تقضم ذيل دهر فظ.. جثم طويلا كالأفعى على محيا بلد جميل.. لحظات مهيبة تقع خارج المألوف و المعروف..
العالم كله يلهث خلف ثورة الياسمين.. كثيرون يغازلونها.. و البعض يتربص بها.. ثورة تونس حورية حسناء خرجت لتوها من البحر الأبيض المتوسط.. لكن عريسها من الجنوب .. شاب أسمر متمرد من أهالي سيدي بوزيد..
ثورة تونس هي نوع من "تسونامي" الكرامة.. بمقاسات طبيعية.. تحدث على الهواء مباشرة.. و تجدد زينتها على مدار الساعة.. في الهواء الطلق.. لا تعبأ بظروف الطقس و لا تخاف من نزلات البرد.. هذه هي الثورة التونسية.. و هكذا سيكتب عنها في مدونته اليوم "هوميروس" آخر رقمي.. قبل أن يخلد إلى النوم في انتظار يوم جديد.. من أيام ثورة تحت الطبع..
"سحر ماء الهباء.. سبحت صاهباء.. هلبا هلبا.. سبحت صاهباء"..
الثورة في تونس فعل إنساني مضارع، مستمر في الزمان و المكان.. تصرفه صيرورة الأحداث في زمن جديد.. و توقيت جديد.. خارج قواعد الصرف و النحو و الإعراب.. زمن ارجواني، ليلكي، ينثر ياسمينا و تمرا.. يختلف تماما عن روزنامة التوقيت العالمي الموحد.. و يسخر من سخافة دوائر الطول و العرض..
ثورة تونس مثل تفجر الإبداع.. ورحيق الخمور المعتقة.. ومواعيد العشاق.. و أحوال المتصوفة.. فهي تخلق زمنها الخاص بها.. و تضبط الآخرين على توقيت فيضها اللامتناهي عبر حدود الزمان و المكان..
في هذه الأيام، ينقسم الزمن في تونس إلى زمنين مختلفين ومتناقضين.. يجسدهما فريقان متقابلان.. لم يعد يفصل بينهما عن موعد ساعة الحسم سوى مسافة المائة متر الأخيرة من الشوط النهائي.. أما الزمن الأول فهو ملك للشارع التونسي الهادر.. على امتداد جغرافية الوطن الثائر من سيدي بوزيد، و القصرين، والقيروان، و تاله، و الكاف، و صفاقس، إلى المهدية، و المنستير، و سوسة، إلى مدنين، و قابس، و تطاوين، و غيرها.. وصولا إلى تونس العاصمة.
وأما الزمن الثاني، فهو زمن الوقت بدل الضائع.. الذي يحاول الفريق الآخر جاهدا أن يناور في الدقائق الأخيرة المتبقية منه... للالتفاف على الثورة .. وسرقة أفراح الشعب كما سرق أخ لهم من قبل أقواته و أحلامه.
ولكن هيهات.. زمن الثورة.. هو الذي سينتصر في النهاية.. و عندها لن يرحم صلف و مكر و حيل.. و قلة حياء تلك البقايا المتحجرة من ديناصورات نظام سلطوي ينتمي إلى العصر الجوراسيكي.. و ستجرف الثورة كل أغلال "السد" و ذئابه البشرية إلى مهاوي الآفلين.
ثورة "غيلان" لن تتلاشى عند "منحدر جبل أخشب غليظ".. ولن تدخل "ميمونة" إلى مضاجع الجلادين و الخفافيش.. و لن تعاشر"ميارى" الأشرار و الوحوش.
ثورة تونس لن تبيع حليب ثدييها بدريهمات من اليورو لسياح على قارعة الطريق.. و لن تسكر الثورة بخمور مهربة .. ولن تأكل أولادها و حوارييها.. بل سترضعهم حليبا و مسكا.. و ستطعمهم خبزا و فاكهة و تمرا.. و ستسقيهم عصيرا وجعة.. و لن يستطيع كائن من كان أن ينتزع الحلم الوردي بعد الآن من شباب تونس و شيبها.. من رجالها و نسائها.. من طلابها و شغيلتها.. من محاميها و صحفييها.. من صياديها ومزارعيها.. من طلائعها و سياسييها.. من نخبها و مثقفيها..
طبعا.. سيبقى هناك بعض من سدنة "مغارة علي بابا" و حراسها لم يفهموا حتى الآن حقيقة أنهم إنما يلعبون في الوقت بدل الضائع.. و أن المباراة قد حسمت سلفا على سارية مشعل بشرى يدعى محمد البوعزيزي.. و أن صافرة النهاية قد أزفت أخيرا..
معالم لوحة الثورة قد اتضحت ملامحها، مضرجة بالدم الطاهر و الياسمين: حشود غاضبة، و باقات ورد فواحة من دكاكين شارع بورقيبة .. تضيق بهم رحابة ساحة الاستقلال.. و قد ارتدت أجمل الأثواب.. أمام هيبة تمثال بن خلدون ورصانة فكره و حكمته.. جنود شباب يبتسمون و يعانقون الثوار.. وقطار الثورة الأخضر.. يندفع في مساره نحو رصيف الحرية و الكرامة و الخبز و"الهريسة"..
لوحة الثورة قد نضجت و اكتملت.. ولم تعد قابلة للمحو أوالزوال.. خلدها الإعلام المرئي قبل المسموع.. و احتضن أبطالها المجتمع الافتراضي على الفيسبوك و اليوتوب.. و ها هي أرواح الشهداء، وقد روت دماؤهم عطش الشعب للحرية، ترفرف حارسة جموع الثوار في ساحة الاستقلال والحرية.. وهي تهمس بأحلام مستقبل أفضل لشعب أراد الحياة..
انواكشوط، 18 دجمبر 2018
محمد السالك ولد إبراهيم
[1] إعادة نشر مقال سابق بعنوان "يوميات ثورة تحت الطبع"، تخليدا لثورة الياسمين في تونس، التي انطلقت شرارتها الأولى يوم 18 دجمبر 2010 تضامنًا مع الشاب محمد البوعزيزي، الذي قام بإضرام النار في جسده، حيث خرج آلاف التونسيين رفضا لما اعتبروه أوضاع البطالة وانعدام العدالة الاجتماعية وتفاقم الفساد داخل النظام الذي كان حاكما آنذاك.