واقع اللغة العربية: قراءة من زوايا عدة / مولاي عمر مولاي إدريس

بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية .. أريد أن ألتمس من الحريصين عليها المدافعين عنها أن يضعوا في الحسبان أنها لغة حية ..وأنها تتطور بتطور الزمن ...وأن ماشاع واشتهر منها ينبغي أخذه بعين الاعتبار بغض النظر عن الحكم القيمي عليه، وأن حبّها لا يعني كره اللغات الأخرى.

 

لغتنا لا تتوقف عند حدود العصر الأموي أو بداية العباسي، لقد تطورت واتسعت، وستظل تتمدد ما دامت حية، لذلك فليس من الوجاهة ولا المنطق بمكان التزمت والتطرف في الاهتمام بشكلياتها وثانوياتها بأسلوب لا يتيح للساعين إلى تعلمها مواصلة الطريق، بل يصعِّب المهمة عليهم، ويضر بها هي، من خلال حصرها في القشور. 

وكي لا يُساءَ فهمي فإنني لا أبرر ارتكاب أخطاء أو انتهاكات في حق اللغة. إنما أردت أن أشير إلى أن الخطأ يمكن تصحيحه برفق دون إيهام الناس أنه جريمة، ودون التعصب له بالقدر الذي يخرج اللغة من سياقها البشري التواصلي في جوهره. 

 كما أردت التنبيه إلى أن ثمة من يتحدثون لغة لا تنتمي إلى العصر ويريدون فرضها قسرا، ويغيب عنهم أنها، وإن نطق بها عنترة والأعشى ولبيد وامرؤ القيس، فوجدوها بسيطة جدا ووافية بالغرض التواصلي والفني بالنسبة لهم، فإنها لا تصلح لنا اليوم ولا تلبي حوائجنا الفكرية ولا التواصلية. بل إنما أسهم الإصرار عليها واعتبارها الخيار الأوحد، في تنفير العديد من الدارسين من اللغة العربية، وفي خلق صورة ظلامية عكرة وجمودية عنها في نفوس الكثيرين. 

 

إن أول الحفاظ على العربية يتمثل في وسمها بالأناقة، والحرص على اتصافها بالحيوية، والتطور، وحضورها في تفاصيل حياة الناس، وانتقاء ألفاظها الجديدة والمنحوتة، من أسماء ومصطلحات، بطريقة تراعي الجاذبية ونفسية القارئ. 

 

لا نريد لتصور العربية الحالكة (الكحلة)، التي توقفت عند خط زمني ولم تتجاوزه، أن يستمر. 

نريد لغة منسابة، وألفاظا عصرية، وإلا فاللغة تسير إلى خانة التراثية والتصنيف ضمن اللغات الميتة، عاجلا أو آجلا. 

 

ثم إنه من الضرورة بمكان أن نكون دعاة إلى العربية حتى ونحن صامتون، وذلك عبر مظاهرنا. إذ إن دارس اللغة العربية اشتهرَ (في موريتانيا) بهيئته البدوية، وثيابه الرثة أو الجديدة البعيدة من التناسق والترتيب، وشكله الذي لا ينتمي إلى الحضارة، من لحية غير مهذبة، وبشرة خشنة شاحبة، ووقفة غير معتدلة، ونظرة بلهاء، وتنخُّع غير لائق هنا وهناك وهو في حضرة الآخرين.  هذا بالإضافة إلى أن فصول اللغة العربية، في الجامعة، غالبا ما تكون متسخة وغير مرتَّبة، وأن طلابها دائما يعيشون نوعا من الإقصاء الثنائي في علاقتهم بطلاب التخصصات الأخرى، ذلك أنهم يعزلون أنفسهم، في نوع من التوحد، والانتماء إلى الماضي، ويتجنبهم الآخرون: لاعتبارهم أنهم يرمزون للتخلف والرجعية، ولأن طلاب العربية يعدون الآخرين (خاصة المتخصصين في اللغات الأجنبية) مُغرِّبين (من الغرب بالمعنى السياسي) أو منسلخين من الهوية. 

 

لا يمكن، زيادة على ماتقدم، أن نتجاهل الضغط النفسي الذي يتعرض له كل من يزمع الالتحاق بتخصص اللغة العربية، وهو ضغط موضوعي من جهة، وانفعالي من جهة أخرى.

 فأما الشق الموضوعي منه فيتجلى في كون خريج هذه اللغة، غالبا ما يجد نفسه في مواجهة البطالة، وإن ولجَ سوق العمل، فلن يكون - في الغالب- إلا معلما أو أستاذا زهيد الراتب أو صحفيا ليس بأحسن منهما حالا. 

وأما الشق الانفعالي فإحساسُ دارس اللغة العربية بالنظرة الإقصائية مجتمعيا وجامعيا وأسريا، فليس أصعب من أن تتعرض للسؤال عن تخصصك فتجيب : "اللغة العربية"، فالرد عادة سلبي، وقد تصحبه علامات سيميولوجية متعلقة بلغة الجسد مفعمةٌ بالازدراء والتقزز. 

ثم إن المتخصص في اللغة العربية لانكماشه المهيمِنِ واهتماماته التراثية في جُلِّها، يطغى عليه - في أكثر الأحيان- نوع من الماضوية والتعالي على الواقع، في لغته العادية وتصرفاته اليومية، مما يؤدي إلى فشله في الاندماج في الحياة، بعيدا عن الجوانب الثقافية والمعرفية. 

ولعل مجتمع "أهل الخيام" - وبنسبة أكبر بكثير النساء - لعب دورا رئيسا في دفعِ الناس عن اللغة العربية، حين ربطها بعدم القبول أو عدم الظرافة (القسلة)، فكأنه ضرب طوقا مجرَّدا حول متخصصيها، وبث في أذهانهم تمثلا سلبيا عن أنفسهم قد يكون السبب في أن أكثرهم يعيشون نوعا من الانعزالية. 

 

الدولة - هي الأخرى- عملت، بوعي أو بغير وعي، على أن تصير العربية لغة ترف واستجمام ذهني، حيث فصلتها عن مركز اهتمامات المجتمع، والذي تحتل التخصصات العلمية الجزء الأكبر من مساحته.  غُيبَت اللغة العربية كذلك من طرف الإدارات والمؤسسات الرسمية الكبرى، فصار من الشروط الجذرية لتقلُّد الوظائف العليا في الدولة إتقان اللغة الفرنسية (حتى وإن لم يتم التصريح بذلك)، لأنها تعد اللغة الرسمية الفعلية للدولة. 

نتج عن هذه الإجراءات تكوين كادر بشري قديم حديث، سيطرت على معاملاتِه ولَكنته اللغة الفرنسية. واغتر بذلك المجتمع المادي الذي تغريه المظاهر، فربط النجاح والغنى والمكانة الاجتماعية بمظاهر التأثر بالثقافة الغربية عموما والفرنسية خصوصا، وبالتشدق بألفاظ أجنبية! 

وتولدَ لديه - في المقابل - تصوُّر راسخ مفاده أن اللغة العربية وما يتعلق بها، دليل على الفشل والعجز عن استيعاب مضامين التخصصات العلمية ومقرراتها، واللغات الأجنبية وما يرتبط بها، ويترتب على ذلك - حسب هذا التصور- انعدامُ المقدرة على إيجاد وظيفة معتبَرة، والعيشُ في أوحال الفقر والدونية. 

 

من هنا يتضح أن خدمة اللغة لها مجالات عديدة اجتماعية واقتصادية وتعليمية وتحديثية وسلوكية، فإذا أردنا حقا أن نثبت حرصنا عليها، فلنناقش هذه النقاط وغيرها مما لم يُذكر، بجدية وموضوعية، ولنستخدم في ذلك لغة تجذب ولا تنفر. 

 لِنتوغل في الواقع، فاللغة تنبت في الأرض ولا تنزل من السماء. 

 

 

19. ديسمبر 2018 - 22:54

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا