ترينا النقطة التي وصلنا إليها اليوم ونحن على مسافة 6 أشهر من انتخابات مصيرية في تاريخ البلد أننا أمام طموحات غير مفهومة ومع ذلك هناك أمر غاية في الأهمية أضحى واضحا بالنسبة للجميع وهو أنه للمرة الأولى نصادف قوة خفية بمعنى شكوكا كبيرة تثني الرئيس عن قضية تهمه كثيرا مثل الاستمرار في السلطة . فما هي هذه القوة يا ترى أو ما هي تلك الشكوك ؟ الدلائل المتوفرة للإجابة عن ذلك التساؤل لا توحي بنفس الفهم للمراقبين الوطنيين إلا أن تلك القضية في الواقع غير محدودة باتجاه واحد خارج السلطة رغم تشعبه بل هناك اتجاهات داخل السلطة وتدور في فلكها تنتمي بالقطع لذلك الخضم أي أنها تتقاسم مع باقي الطيف الوطني نفس الفلسفة الأساسية للبلد التي هي الحفاظ على الاستقرار السياسي وهذا في التحليل النهائي ضمن القوة الخفية أو هو من خلق تلك الشكوك .و الغريب في الأمرـ وهي في النهاية العقبة الرئيسة في خلق تيار وطني ـ أن صياغة السؤال أو تقييم الوضع العام بأن مستقبل البلد المرتبط بتلك العملية، مشبع بالقلق ـ لا تستخدم نفس اللغة بمعنى الطرح وجملة الأفكار والمفاهيم المؤسسة للمرحلة القادمة، لكنهم في المحصلة متفقون أن تلك الطريق محظورة سبب خطورتها . إن أي مستقبل آمن لهذا البلد لن يتحقق أبدا دون الرضوخ لمقتضيات الدستور ومتطلبات المرحلة بمعنى وضع أسس لعملية تنافسية ذات مصداقية كبيرة تكون نتيجتها غير محسومة مسبقا بسبب سوء استخدام أدوات الدولة وإفساد استقلالية اللجنة المستقلة للانتخابات .لكن كيف ولماذا لا يخلق هذا التوجه المشترك خطوط توافق عامة تحدد مسارا تفاهميا وطنيا بين مكونات هذا التوجه بعيدا عن الحدود السياسية ( أغلبية ـ معارضة )، يبقى سؤالا صارما في وجه المستقبل ؟.
يواجه الجواب على هذا السؤال صعوبته من صعوبة صهر ذلك التيار في اتجاه واحد ، فليس بديهيا توحيد أطياف متنافرة ظلت تتغذى على دعاية عدائية تأخذ مصداقيتها من التطرف والبعد من الطرف الآخر، في موقف واحد دون أحداث كبيرة ، إلا أننا قد نحصل على جواب استشرافي في أحد احتمالين نابعين من الوضع العام للبلد في ضوء المواقف السياسية المرتقبة للكتل الكبيرة في البلد خلال الفترة القريبة القادمة وهما إما بالخوف الكبير على المستقبل أو الثقة الكبيرة فيه . أي في المحصلة لابد من أحداث مفزعة أو شخصية كاريزمية توحي بالثقة بالإصلاح والاطمئنان للجميع لخلق عنصر الجذب الذي بإمكانه صهر تلك الأشلاء في رؤية واحدة .
يقودنا البحث في هذه القراءة للعودة مرة أخرى إلى صفحة عزيز ، هذا الرجل الذي ظل قويا من اليوم الأول الذي ظهر فيه على مسرح الأحداث الوطنية على نحو رسخ لديه مفهوما خطأ بربط القوة بشخصه لا باحتكار السلطة بمفهومها العنيف . لم يشأ عزيز أن يكون حازما في وضع حد للتأويل المرسوم في مخيلة الرأي العام لأقواله المرتبطة بمغادرته للسلطة ، فهو عندما يعطي جوابا صريحا بعدم ترشحه أو بعدم المساس بالدستور يُعقب عليه بما يفيد بأنه باق في السلطة أو يتراجع عن ترتيبات ما سياسية أو قرارات كان من شأنها توضيح موقفه الحقيقي وهي طريقة ذكية اتبعها ليبقى على شعبيته التي ظلت تدعمه فقط لأنه في السلطة ،ثم أن الأمر لا يتوقف عند ذلك التشكيك، فمن الناحية العملية ظل يربط جميع أوراق اللعبة بحزام واحد يلفه بالغموض ويربطه بيده، وهذا ما خلق بالأساس رؤية قاتمة حول إرادة النظام وجديته هو حول مستقبل التناوب بالمفهوم الصحيح وربط عقول السياسيين بخيوط من الشك والخوف جعلتهم يصطفون خلفه في نفس مربع الشك أو الخوف من المستقبل الذي يقف هو فيه، إنه دهاء كبير غير منتظر أو في غير محله ،وقد لعب لعبته في تقسيم معسكره إلى ثلاثة صفوف ـ صف الأقلية ( أو الجماعة التي تعمل بمقتضى ما يتمناه عزيزفي قرارة نفسه وهي في الأساس ( بطانة دائرة المصالح الضيقة التي خلقها عزيز ومستفيدة من القرب منه ، لكنها غير منسجمة ولا تملك أي عمق وطني أو انتخابي ) هي وحدها من يطالب ببقائه كقائد بنى الوطن ، رغم أنه تنازل عن مداخيل البلد الأكثر استراتيجة من خلال عقود تراض تحت عنوان صفقات ( المطار والميناء) لمدة 25 سنة وهو على مسافة 7 أشهر من مغادرته الحكم ، وبعيدا عن إبداء أي رأي حول ديماغوجية ذلك الخطاب فإن الجماعة ليست بالحجم المغري باجتياز أي مغامرة في الاستمرار في السلطة رغم أنها تتمسك بالتوجه الراديكالي المتعلق بتعديل الدستور . بينما تقبع الجماعتان المتوسطة والكبيرة خلف رفض ذلك الخيار : فالجماعة المتوسطة والمهمة من حيث الوزن هي التي تعي وتتمسك بشراكتها ودورها في هذا النظام وتعتبر أن المقاربة الأمنية لعزيز هي التي أمنت الحدود وحافظت عليه في السلطة عشر سنوات دون أي اضطرابات لكنهم يرون أن أي مغامرة في الاستمرار في السلطة هي أساس لنسف ذلك النجاح ونسف النظام من أساسه وبالتالي لابد من تحول هادئ ومديد. وفي نفس الاتجاه يرى القطاع العريض الداعم لعزيز والمرتبط به عبر الوظائف أو المصالح أو الخوف من أجهزة الرقابة أو الجمارك أو الضرائب أو الإدارة يرى أن البلد لا يمكنه أن يستمر في نفس الرؤية بل ولا بنفس الأسلوب . وباستثناء الجماعة الأولى التي تشغل الإعلام وحيز الدعاية لا تريد البقية ركوب ذلك التيار لكنها لا تريد أيضا الظهور ضمن تيار الرفض العلني إلا أن وجهات نظرها أضحت مقروءة للحد الذي يجعلها جزءا من الاتجاهات التي تتلمس مخرجا آمنا للبلد .كيف وبأي وسيلة ؟يبقى ذلك هو سؤال الساعة !
لا يعني طي صفحة عزيز النهاية التي لا يمكنه معها التحكم في مصيره الشخصي في البلد إن أراد، أو نهاية نظام يضم قطاعات عريضة من النخبة وأغلبية سياسية واسعة،بل بمعنى أننا من الناحية الواقعية أمام حقائق جديدة على الأرض تفرض استقلالية واقعية عن عزيز ونمط جديد في إدارة البلد لا يمكن إخضاعه لنفس النمط مدة أخرى من الزمن :رئيس أو مترشح جديد للرئاسة ،خريطة سياسية جديدة تبعا لذلك ، تعقيدات وإكراهات من نوع مختلف ، خطاب سياسي وتعهدات وتحالفات وحملة مختلفة وواقع سياسي واقتصادي يتطلب رؤية ويتطلب استقلالية كاملة عن النمط السابق الذي هو مصدر كل هذا القلق .... ومن شأن هذه الحقائق أن تفرز طموحات ولاعبين جددا أي أن هذا الخضم الذي سيأتي برئيس جديد سيواجه تعقيدات الحكم وإكراهات تسيير المصالح المتعارضة وسيتطلب ذلك شرعية جديدة ليست شرعية عزيز ليس لأنها شرعية بالية فحسب ، بل لأن ذلك النوع من الشرعيات غير قابل لأن يكون شرعية لنظام حتي وإن كان من تحت عباءة عزيز لإنه مُطالب بإصلاحات عميقة وشاملة ومجبر على اجتياز مطبات حقبة مريعة بالنسبة لمبدأ التوزيع العادل للثروة وتهميش مكونات مهمة في البلد صارت ترى نفسها وكأنها غير معنية بما يدور لأنه لا يتعلق بمفهوم الوطن ولا العدالة . إن بناء هذه الشرعية يتطلب مسارا تراكميا يظهر بصفة مبكرة مع نوايا الترشح وأساسا من البحث عن القبول أي الدخول عبر قنوات ذات مصداقية وهي أن المرشح الجديد أو الأغلبية الجديدة بحاجة للنقاش والتشاور حول ظروف القبول وبالتالي عليها أن تتشكل وتنفذ من مربع الشك الذي تقف فيه خلف عزيز لتطرح بنفسها ظروف وشروط القبول مع باقي الأطراف السياسية وتعيش معهم نفس الإنشغال والإهتمام بتحقيق التناوب والبحث عن مصدر للإطمئنان. إن المسألة هنا بالأساس مسألة أفق ظروف الإنفجار في حالة استمرار هذا الوضع ، وهي التي تترجم إختلاط كل شيء داخل البلد بما في ذلك التوازنات العميقة التي حافظت على النظام العام طيلة حياة الدولة والمعرضة للإنفجار في غياب أي تحول عقلاني أي أن المشكل المطروح هو تسوية الإختلالات الكبرى وهو الرهان نفسه المطروح أمام كل المرشحين وبالتالي فالمشاكل المطروحة لكل المترشحين في إدارة البلد هي نفسها من الناحية الموضوعية أي أنها لن تختلف بالنسبة لمرشح من المعارضة أو من الأغلبية لأنها ستفرض نفسها في أول يوم يرفع فيه عزيز يده عن السلطة .إن أي رئيس تم انتخابه سيجد على طاولته نفس المشاكل بدرجة الإلحاح نفسها ولن يستطيع التغطية عليها ولا تجاهلها : مثل الدين الخارجي بحجم الناتج المحلي والفقر المتصاعد والاتفاقيات والصفقات العديدة لامتصاص ثروة البلد لفترة طويلة قادمة والبطالة المتنامية ومشكلة الشركات الوطنية التي تم تدميرها أوالتي تنزف ، مشاكل التوترات الاجتماعية وفي أحسن الأحوال سيكون مضطرا لاتخاذ قرارات سريعة وواقعية ومخالفة لبعض التطلعات ولن يكون لديه الوقت لتسيير رغبات أي طرف، أي أن البلد اليوم أمام رهان وطني أمام مشكلة البحث عن رئيس وطني قادر على إدارة أوضاع استثنائية أو إدارة مرحلة انتقالية حقيقية تهتم ببناء التوازنات الكبرى للبلد وإعادة الاعتبار للمسألة العمومية ومنطق دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية وقادر على خلق رؤية، للتعاطي مع هذا الوضع وبنفس الدرجة يحتاج لمجتمع سياسي منسجم ومنفتح على بعضه يقدر حجم الرهان الوطني وقادر هو الآخر على ابراز كوادر وطنية من الناحية الموضوعية .إن هذه الوضعية تخص كل الموريتانيين على قدم المساواة ولا يختص بها أي طرف دون الآخر ولذلك لن يملك فيها عزيز أي دور مهم أو حقيقي فالكل هنا مجتمع لإعادة تنظيف أدوات السلطة الصدئة المتهالكة ،وتسوية الاختلالات الكبيرة التي أثرت فيها لأقصى حد 10 سنوات من التسيير الشخصي للبلد وكانت عنوانا لموجة إضرابات واحتجاجات هائلة ارتبطت بإيقاع الحياة المختلفة والتي ظلت تعكس غياب توفر أي متطلبات الاستمرار سواء بالنسبة للوظيفة أو بالنسبة للعيش الكريم وقد أخذت مضاعفات ذلك تظهرعلى نطاق حاد وواسع بمعنى أن الشروط للتعرف على حالة تدهور البلد قد تضافرت أو تجمعت بشكل جلي والكل يعرف أنها نتاج لهيمنة شخص واحد على قرار البلد .صحيح أن عزيز لا يخدمه تقديم حصيلة تسييره للبلد بصفة موضوعية وبعيدة من الشوائب كرئيس ظل يحارب الفساد أو يطيب له بأن يكون رحيما بالفقراء ، لكن من الأحسن أن يتم تمرير ذلك ضمن محاولة عامة للإصلاح من أن يكون عنوانا لعملية جرد حساب بسبب تحول عنيف أو ارتدادات لمحاولات غير محسوبة من الاستمرار في السيطرة .ومن البديهي أن الخيار لعزيز، ذلك فيما يخصه. لكن في الواقع لا يمكن لمستقبل بلد أن يبقى تحت رحمته وهو يغادر السلطة . إن الحل يكمن في نزع فتيل الاستبداد في تحديد خيارات المستقبل السياسي للبلد وتحديد قالب سياسي واحد لشرعية الحكم فيه . إن الكل مطالب بالخروج من طموحاته الضيقة نحو الأفق الرحب للإصلاح ومن دون أي إملاءات خلف : ـ شخصية وطنية مستقلة وتملك تجربة واسعة ومستعدة لخدمة البلد وقادرة بشكل فوري على مسك زمام تسيير البلد .
ـ برنامج وطني يحدد الأولويات ويضع البلد على طريق الإصلاح ويخلق إطارا تشاوريا عميقا حول المشاكل الوطنية.
ولا يمكن أبدا الخروج بالبلد من الدروب المفزعة التي دلف إليها عبر تراكم المآسي واخفاقات الأنظمة المتعاقبة والنخب الوطنية إلا بواسطة وقف عقود من التجاذبات العقيمة التي ذهبت بالبلد بعيدا عن الرهانات الأساسية التي هي المواطن مشاكله وهمومه والدخول في مرحلة جادة من النقد الذاتي للعقل والفعل المسيطرين في البلد . إنها مرحلة نضج بعيدة لكن يمكن التأسيس لها من اليوم أي من الوقت الذي نغتنم فيه فرصة هذا التحول والانتقال إلى حكم مدني حقيقي عبر عملية سياسية ناضجة تستند إلى رؤية ومعايير ووفاق سياسي.