لا أعتقد بأن كتاب "مذكرات سائق"، الصادر عن مطبعة المنار في نواكشوط سنة 2016، لمؤلفه السيد سيد أحمد ولد أمبارك -الذي كان سائقا بالسفارة الموريتانية في سوريا في فترة ثمانينيات القرن الماضي- قد نال ما يستحق من الاهتمام والتمحيص. بل يكاد يكون هذا الإصدار قد مر مرور الكرام في ساحاتنا الأدبية والإعلامية والفكرية، رغم ما تميز به من طرافة ودقة. باختصار، إنه كتاب يسبح بالقارئ بين عالم أدب الطرافة مثل "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" وعالم التوثيق المحكم للمحاضر القضائية.
أما مؤلف الكتاب فهو يقدم لنا نفسه كإنسان بسيط لكنه متميز. شخص عصامي، جاء إلى المدينة قادما من بوادي تكانت، يحلم فقط بأن يكون مجرد سائق سيارة في مدينة تجكجة، لكن إرادته القوية، وقدره السماوي، ساقاه ليصبح سائقا لدى السفارة الموريتانية في دمشق مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي، عندما اصطحبه معه السفير الأسبق محمد محمود ولد ودادي.
قام المؤلف بتكوين نفسه بنفسه. ورغم أنه لم يحظ بفرصة للدراسة النظامية، إلا أنه استطاع أن يوثق في كتابه، الكثير من الأحداث الهامة أثناء عمله كسائق في السفارة على مدى عدة سنوات، كما ارتبط بالعديد من الشخصيات المهمة في الخارج والداخل، مما منحه مصداقية الحديث عن مشاهداته وعن معايشته للأشخاص والأحداث والوقائع كما لو كان شاهدا على العصر، وأي عصر؟ إنه عصر تهافت الدبلوماسية الموريتانية والدبلوماسيين الموريتانيين في بعض البعثات الدبلوماسية في الخارج، منها السفارة الموريتانية بدمشق التي تدور حولها معظم الوقائع التي يتحدث عنها صاحب الكتاب.. وقد اقترنت أسماء كثيرين ممن يتحدث عنهم المؤلف بمغامرات تهريب السجائر من لبنان والأردن إلى سوريا داخل سيارات البعثة، وبيعها هناك بأغلى الأثمان، كما ويوثق لنا ذلك السائق-المؤلف سيد أحمد ولد أمبارك في كتابه "مذكرات سائق".
ولعل أهم ما يميز هذا الكتاب- الذي يقع في 177 صفحة، ويضم مقدمة 6 فصول وعددا من الملحقات- هو كونه يجري محاكمة لا هوادة فيها لتلك المغامرات من خلال إبراز وتوثيق جميع أنواع أدلة الإثبات لإدانة عمل السفارة الموريتانية في سوريا آنذاك، حيث يثبت بأن أهم نشاط لدى تلك البعثة على مدى 6 سنوات، تعاقب خلالها أكثر من أربعة سفراء، كان عمليات تهريب السجائر في السيارات الدبلوماسية التابعة للسفارة، حيث بلغ مجموع الكميات المهربة 188.919 كروص من مختلف أنواع التبغ أي حوالي 38 مليون لفافة دخان، بلغت حصيلة تسويقها بشكل غير مشروع داخل السوق السوداء في سوريا، عشرات ملايين الدولارات، التي استفاد منها أساسا السفراء وزوجاتهم وبعض طواقم السفارة من مستشارين وغيرهم، حتى السائقون كان لهم حظ ولو يسير من تلك الغنائم كما يروي المؤلف في كتابه.
وقد بين المؤلف كيف أن جميع السفراء وأغلبية طواقم السفارة كانوا يمارسون عمليات بيع السجائر المهربة، وكيف أنه هو نفسه من كان صاحب الفكرة التي عرضها لأول مرة على المحاسب وكيف اقنع بها المحاسب السفير، وبدأت عمليات التهريب والبيع بالاعتماد على القنصل الشرفي لموريتانيا في الأردن آنذاك، وهو شخص أردني الجنسية سوري الأصل يدعى عبده الحلبي، ويلقب أبو هشام، الذي كان يشتري من طاقم البعثة "الكروص" الواحد من سجائر مارلبورو بـ 10 دولارات، وكانت الشحنة الواحدة في السيارة قد تبلغ 250 كروصا، وتتم عملية التهريب مرتين إلى ثلاث مرات أو أكثر أسبوعيا، وهو ما كان يدر على السفير ربحا صافيا قد يصل - حسب مؤلف الكتاب - إلى مبلغ 30 ألف دولار شهريا. أما السائق- المؤلف نفسه فكان نصيبه من العملية حوالي 100 دولار عن الرحلة الواحدة، كما أكد ذلك في فقرات عديدة من الكتاب.
الكتاب شيق وممتع للمطالعة.. لغته سهلة وسليمة إلى حد كبير.. لا أدري هل استعان صاحبه بغيره على تأليفه. إنه أقرب للسرد القصصي حول مغامرات السائق وخواطره منه إلى المذكرات بالمعنى المتعارف عليه.. لكنه مليء بالقصص التي لا تخلو من طرافة، كما لا تخلو كذلك من بعض التشهير أو التعريض - الذي قد لا يكون مقصودا- خاصة أنه يتناول أسماء الأشخاص وذكر أفراد عيال السفراء، وكذا الأسر والعائلات التي تزور السفارة أو تمر من سوريا بحيث يكون السائق -المؤلف في استقبالها أو مرافقا لها بناء على تعليمات من السفير.
الجديد الذي جاء به "الأستاذ" سيد أحمد - كما كان يحلو له أن يناديه السفراء الذين تعاقبوا على البعثة في سوريا أثناء تلك الحقبة- هو ذلك التوثيق الدقيق تماما مثل إعداد المحاضر القضائية.. والذي قد يفتح آفاقا لا حدود لها لتقييم أداء الدبلوماسية الموريتانية من الناحية الأخلاقية والمهنية، والقانونية والإنسانية في تلك الحقبة، ليس فقط أمام الدولة والإدارة الحكومية ولكن أيضا أمام التاريخ.. وأمام الأجيال الحالية والقادمة من الدبلوماسيين المهنيين ومن الباحثين في هذا المجال.
ومن أغرب ما اكتشفته في هذه الكتاب، هو أن صاحبه يتمتع بقدر كبير من الشجاعة والصدق مع الذات، حيث يعترف بأنه كان العقل المدبر لعمليات التهريب، وكان دوما مع السفير ومحاسب السفارة بمثابة غرفة القيادة والتحكم في نشاط التهريب، رغم أنه يظهر دائما الندم على ما يقوم به، إلى درجة الإحباط في بعض الأحيان، لكنه يعود دائما إلى ممارسة التهريب رغم وعيه التام بأنه عمل غير شرعي ومجرم قانونيا، ويتعارض مع المهام والأعراف الدبلوماسية، وكأنه أصبح مدمنا على التهريب وعلى"الاستفادة" التي يحصل عليها من ذلك التهريب كتكملة لمرتبه الذي كثيرا ما يصفه بكونه غير مجز ولا منصف مقابل الخدمات "الكثيرة" التي يقوم بها لصالح السفارة.
كذلك، تظهر شجاعة السائق-المؤلف التي تصل درجة التهور عند قصة توقيف السيارة الدبلوماسية الخاصة بالسفير، التي كان يقودها هو ومعه القائم بالأعمال، على الحدود اللبنانية السورية، حيث تحمل شحنة أكثر من 250 كروصا من التبغ المهرب.. وكيف تشاجر مع فرقة الجمارك السورية، رافضا فتح السيارة للتفتيش ومتذرعا بأنها سيارة دبلوماسية منزهة عن مثل تلك الأعمال اللامشروعة. إلى أن تصل الأمور إلى عنق الزجاجة، وتحتجز الجمارك السيارة وما فيها، فتبعث السفارة الموريتانية في الغد مذكرة شفهية إلى وزارة الخارجية السورية تعتذر فيها عن "نسيانها" إرسال طلب إعفاء لكمية من السجائر، مطالبة بتسليمها السيارة وما فيها من تبغ.
وهنا تصل الدراما التي يقصها علينا السائق-المؤلف قمة اللامعقول، بحيث تتحول هذه التراجيديا إلى ملحمة بطولية كما يصورها المؤلف، تظهر شجاعة السفير الموريتاني في دمشق آنذاك، الذي بادر بالإتصال بوزير الخارجية وبنائب الرئيس السوري، وبرئيس الوزراء مطالبا بتسليم كمية السجائر المحتجزة لدى الجمارك السورية. لكن دون جدوى، يتحسر السائق-المؤلف على فشل كل تلك الجهود "البطولية".. فالسجائر لن تسلم أبدا للسفارة رغم توقيعها على محضر إدانة يثبت تورطها في التهريب.
وفي كل تفاصيل الكتاب، تدرك درجة تحمس السائق-المؤلف لما كان يقوم به من أعمال غير مشروعة ومخالفة لأبسط أبجديات العمل الدبلوماسي في السفارات، فتجده يذكر بأنه كان ينتشي كثيرا عندما يشعر بأن السلطات السورية -خاصة الأمنية منها- كانوا يعتبرونه "ضابط مخابرات موريتاني" يعمل متخفيا لدى السفارة.. لكن من يدري؟ لربما كان فعلا كذلك..
الطريف في هذا الكتاب.. هو أنه يبدأ بتصريح المؤلف بأن حلمه في الحياة كان مجرد أن يصبح مجرد سائق سيارة، بينما نجد في نهاية الكتاب أن هذا الحلم قد تطور كثيرا بحيث أصبح السائق متعلقا بأن يصبح دبلوماسيا. وهو ما يذكر لنا بأنه تحقق بالفعل بعد أن تم اكتتابه في الوظيفة العمومية بعد الكثير من التدخلات واستخدام النفوذ الاجتماعي والعلاقات الواسعة التي أصبح السائق يتمتع بها بعد سنوات كثيرة من العمل لدى السفارة الموريتانية بدمشق.
على كل حال، مطالعة هذا الكتاب الشيق أثارت لدي وستثير لدى كثيرين من القراء، العديد من التساؤلات:
- هل كان لدى وزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية وأجهزة المخابرات الموريتانية في ذلك الوقت علم بممارسات التهريب التي كانت تشكل أكثر من 90 بالمائة من عمل السفارة الموريتانية في دمشق آنذاك؟ وهل كان لها نصيب في ريع تلك العمليات مقابل السكوت؟
- هل اطلع رؤساء الجمهورية ووزراء الخارجية المتعاقبون على هذا الكتاب؟ وهل لديهم النية في فتح تحقيق في الممارسات المشينة وغير المشروعة التي كانت تمارس في البعثة الدبلوماسية في دمشق؟
- هل توقفت السفارة الموريتانية في دمشق عن نشاط التهريب؟ وهل تقتصر تلك الممارسات اللامشروعة مثل التهريب وغيره على تلك السفارة فقط؟
- ماذا لو كتب سائقو جميع السيارات لدى كل بعثة دبلوماسية وقنصلية موريتانية في الخارج مذكرات من هذا النوع؟
- هل تعي الدولة حجم هذه الفضيحة؟ وكيف ستواجه المشكلة التي تتجاوز كل مقاييس الفضيحة الأخلاقية في حالة تأكد الوقائع والأحداث التي ذكرها السائق-المؤلف في كتابه؟
- ماذا لو نشرت الحكومة السورية أو سربت المحاضر والصور والمستمسكات التي لديها لإدانة طواقم السفارة الموريتانية في سوريا في ملفات التهريب؟ أو رفعتها لجهات دولية من أجل التحقيق أو المحاكمة؟
- هل ستستخدم وزارة الخارجية الموريتانية المعلومات الواردة في هذا الكتاب كجزء من توثيق التاريخ الرسمي لنشاطات وعمل البعثات الدبلوماسية الموريتانية على الأقل من أجل استخلاص الدروس والعبر لتصحيح المسار في المستقبل؟
- هل سيتم تدريس هذا الكتاب- الصادر حديثا- في المقررات الدراسية لطلاب شعبة الدبلوماسية في المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء؟
- متى سيصدر الكتاب القادم لنفس المؤلف؟ فهو يذكر في هذا الكتاب بأنه عاكف على تأليف مذكرات دبلوماسي.. وما طبيعة القضايا الأخرى التي قد يكشف عنها؟
- أخيرا.. هل ستصمت الجمهورية - كما عودتنا دائما- وكأن شيئا لم يكن؟
انواكشوط، 22 دجمبر 2018
محمد السالك ولد إبراهيم