إذا كان الفقه القانوني التقليدي قد درج على تحديد الدولة انطلاقا من مقومات ثلاث هي: الشعب والإقليم والسلطة، فإن الفقه القانوني الحديث قد أضاف إليها مكونين إضافيين هما : السيادة والشخصية القانونية ، وهذان المكونان يعتبران أهم بكثير من العناصر الثلاثة السابقة ذلك لأن السيادة هي العنصر الأساسي الذي يتوكأ عليه كيان الدولة ، فدولة لاتمتلك سيادة أو منقسمة السيادة أو منزوعتها ليست بدولة يجدر الاعتراف بها كجسم سياسي بين مثيلاتها. كما أن الشخصية القانونية والتي هي بالأساس"أهلية اكتساب الحقوق وتحمل الواجبات"، تقتضي فصل كيان الدولة كجسم سياسي مستقل- بلغة روسو- عن الشخص أو مجموعة الأشخاص الذين يمارسون السلطة بشتى أشكالها داخل الجسم سياسي بناء على مجموعة من النظم والقوانين تشكل دستورا ينظم علاقات الدولة الداخلية وبعض أوجه العلاقة مع الكيانات الموازية الأخرى. وفصل السلطة عن الميكانيزم القانوني الذي أوجدها يترتب عليه أن الرئيس الذي يقع على هرم السلطة وهو القائد الفعلي للدولة، والحكومة التي هي جسم سياسي وسيط بين المواطنين وصاحب السيادة هدفه التبلبغ والخدمة، ليسا هما الدولة، بل يعتبران أدوات تعبير اقتضتها الديمقراطية، وعلى أساس ذلك فإن مسألة ولاء المواطنين حكاما كانوا أو محكومين ينبغي أن يتجه حصرا إلى الوطن وإلى الدولة بوصفها مؤسسات قائمة لاتزول بزوال القائمين عليها ولا تنتفي بانتفاء شرعيتهم بل تبقى قائمة تتوارثها الأجيال تلو الأجيال، ولكن للأسف هناك خطأ كبير يقع فيه الكثيرون حين يسعون إلى إبراز ولائهم بحصره في شخص الرئيس أو الوزير ، ويظنون أنهم بذلك السلوك قد استوفوا شروط الولاء للدولة.
إن الولاء الحقيقي هو الولاء للدولة متمثلة في المؤسسات والنظم القائمة والقوانين التي تواضع عليها المواطنون وارتضوها حاكما وحكما بينهم ، تلك القوانين التي أعطت للرئيس والسلطة شرعية الوجود والاستمرار من جهة، وهي التي أوعزت من جهة أخرى للمواطين بالإذعان للسلطة الحاكمة ما لم تنحرف عن جادة القوانين التي تم التواضع عليها والاتفاق عليها مسبقا .
وعلى أساس ذلك يمكن القول إن أولئك الذين يتهافتون على اقتناص رضا الرئيس ويعملون بكل ما أوتوا من قوة في سبيل التقرب والزلفى من أعضاء الحكومة، ينطلقون من مسلمة خاطئة تؤدي بهم حتما إلى تدمير ذواتهم بذواتهم . وخير دليل على ذلك أولئك الموريتانين الذين لا ينفكون يتسابقون إلى نيل رضا الرئيس والحصول على حظوة عنده سبيلا إلى تحقيق مصالحهم الخاصة والمحافظة عليها، إذ يدعون الرئيس بلجاجة لمأمورية ثالثة وهو لها كاره، ويتناسون أن هناك دستورا يحدد المأموريات باثنتين فقط. إن مثل هؤلاء بأعمالهم هذه لا يعلنون الولاء لا للوطن ولا للدولة حين يهدمون القوانين والأسس التي انبنت عليها، ولا للسلطة التي وجدت بمقتضى هذه القوانين ولا للرئيس حتى، وإنما يعلنون الولاء لشيء واحد هو مصالحهم الخاصة التي يعتبرون أنه بزوال النظام القائم تتهدد مصالحهم ومناصبهم ، ولا يهمهم ما آلت إليه أوضاع الوطن والمواطنين ما داموا ثابتين في مناصبهم، وأحسن تسمية لهذا النوع من الولاء هو "الولاء للذات" لأن صاحبه لا يبتغي بسلوكه وتصرفاته غير إشباع رغباته وتحقيق طموحاته الأنانية ولو على حساب الوطن ، وأعتقد أن دولة تعول على مثل هولاء آئلة إلى الزوال لا محالة، فما كان لدولة أن تقوم على مبدأ التنافس على المصالح الخاصة حصرا.
إن الولاء الحقيقي هو الولاء للدولة منظورا إليها منفصلة عن أي تجسد في شخص فرد أو مجوعة أفراد.