تأسست المطامح لكبرى للشعوب عبر التاريخ، على جملة من الفرضيات و البنيات التصورية دفعت من أجلها كل غال و نفيس، نزوعا منها إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الرفاهية و الاستقرار ، كما تحيط كل مكتسباتها في هذا الاتجاه بكل مقومات الحماية و التدعيم المكين، و من أبرز هذه البنيات التصورية، حلم تحقيق التنمية المستدامة التي تحيل في مدلولها المعاصر إلى تصور تنموي شامل يعمدُ إلى تقوية مختلف المجالات المجتمعية بما فيها الاقتصادية و البيئية ، أي الاستثمار لكل الموارد من أجل الإنسان .
و مهما تعددت استراتيجيات و مقاربات التنمية لدى الأمم و الشعوب، فإن الجذر المركزي لتحقيق الرفاه المستديم يبقى متعلقا بمستوى إدراك العلاقة الجدلية بين التنمية و الاستقرار لكونه مسألة تتطلب الانتباه، لا بوصفها تكريسا للأحادية، بل بوصفها من حتميات صياغة قوالب النهضة، باعتبار أن النهضة في حد ذاتها تمثل كما كبيرا من المظاهر الايجابية المتعددة في الطبيعة و مجال التحقق، أنتجها حراك ثقافي و مجتمعي يسعى إلى بعث لقدرات الذات و تعميق الإحساس بالهوية والمقومات الحضارية.
و لعل الوصف الدقيق لمستوى إدراك هذه العلاقة الجدلية بين التنمية و الاستقرار يحيل للوهلة الأولى إلى الوعي الصادق الغير مشوش بأهمية هذا التلازم الضروري بين هذين القطبين في كل مسار نهضوي، فكلما اكتسب شعورنا وعيا بالآثار الايجابية للحراك النهضوي، كلما تعززت تجاربنا التنموية و ازداد التفاؤل بالمستقبل.
و يعني ذلك أننا مطالبين بالقيام طبقا للحس الوطني السليم بعملية تجريد إدراك فعل تجربتنا التنموية من جميع العوائق المموهة للواقع الساعية إلى تزييفه، و تكريس النرجسية الهدامة، فقراءة آثار ما تحقق على أرض الواقع من مكاسب تنموية يجب أن ننظر إليها من زاوية موضوعية ليكون التقييم صحيحا و متوازنا، و بذلك يكون بناء الآراء صافيا و شفافا يتيح إشاعة أجواء من الاطمئنان و السكينة، لأن بناء أرضية للرأي و الرأي الآخر تتطلب ببساطة الانطلاق من عملية استنباط للحقائق لا مزايدة فيها و لا مصادرة لمكونات واقعها الخاص.
إن الإدراك الموضوعي لتجليات مجهود صياغة نهضتنا، لا محالة سيدفع بوعينا المدني إلى أقصى مدياته نحو الفعل المشترك البناء الذي ينشر الاستقرار كقطب مركزي للتنمية و ممارسة العيش الكريم، كما سيجنب حراكنا الكلي في اتجاه التنمية، كل الصعوبات، ليمارس تطوره في أمان و هيبة و استقرار، و لا ننسى أنه يمثل التجربة العربية و الإفريقية التي سجلت بعض الخطوات الواعدة على طريق تجاوز الكثير من الصعوبات ـ في ظرف خاص ـ على مستوى الاستراتيجيات و الواقع العملي المعيش، و لعل ذلك ما يدعونا إلى رعاية و تدعيم ما حققه من آثار ماثلة لفكرنا النهضوي، و مواصلة الدرب في تصحيح ما قد يعن من عقبات جديدة.
علينا كمثقفين وقادة رأي و مواطنين أن نتسلح بالآليات الكفيلة بتمكيننا من إدراك الآثار الايجابية لفكرنا النهضوي لنكون في الزاوية الصحيحة من مساحة المسار العام لوطننا و مجتمعنا، الذي لا يتهدده أي خطر أكبر من تزييف مساحات الفعل الوطني العمومي الذي ينشر بكل ثبات خطط التنمية بمختلف أبعادها، ويجسد على أرض الواقع الكثير من هذه الخطط التي لم نحلم بها في ماضينا القريب، و الأمثلة كثيرة، لا نستطيع بكل موضوعية أن تستوفيها هذه السطور القليلة التي نسعى من خلالها فحسب إلى إنارة الرأي بصورة أكثر شمولية إلى بعض الحقائق التي أصبح إبرازها مسؤولية تاريخية .
إن مشهدنا التنموي يعرف ـ لا محالة ـ بعض الصعوبات، لكنه حاله اليوم يفوق بكل المقاييس ما تجشمناه من عناء في هذا الاتجاه في ماضينا القريب من تبديد للمال العمومي و ترسيخ ثقافة الفساد و غياب الخطط التنموية الواعدة.
إننا نعيش بحق صياغة لقوالب نهضة طموحة تتطلب منا التفاعل معها بالإيجابية المناسبة و إدراكها بصورة لا مواربة فيها بعيدا عن تزييف الواقع الهدام.